العملاق الروسي، يُسقطِ الرهان الأميركي على أردوغان…
| د. قحطان السيوفي
الحرب السياسية الاقتصادية التي يخوضها الغرب الأميركي- الأوروبي ضد الاتحاد الروسي أعادت إلى المشهد العالمي مظاهر الحرب الباردة ؛ فمن العقوبات الاقتصادية الكيدية ضد روسيا… إلى تخفيض أسعار النفط الخام… وأخيراً وليس آخراً التحرش العسكري بالوكالة عن طريق حليفهم البائس السلطان التركي الجديد أردوغان. وذلك بإسقاط طائرة مقاتلة روسية… بحجة غير صحيحة تقول؛ إن هذه الأخيرة خرقت المجال الجوي التركي… نجد رجب طيب أردوغان بقامته الجيوسياسية (المُتقزمِة) يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقامته الجيوسياسية والعسكرية (العملاقة)… والشخصيتان متناقضتان.
الرئيس بوتين شخصية قومية تحظى بشعبية كبيرة تؤكدها استطلاعات الرأي، وهو يقوم بانتظام بتأطير القضايا حول مسائل الاعتزاز والظلم التاريخي.. ولا يمكنه قبول خسارة ماء الوجه مهما كانت المخاطر عالية… الرئيس بوتين نفى مزاعم أنقرة؛ أنها تصرفت في حدود القانون الدولي من خلال تحذير الطائرة، مُكذباً، بالوثائق، ادعاءات حكومة أردوغان أن الطائرة الروسية خرقت المجال الجوي التركي… واعتبر الحادثة طعناً في الظهر… على الرغم من أن تركيا وروسيا شريكان تجاريان، إلا أن الرئيس بوتين لم يُظهرِ أي تساهل بل كان حازماً وجاداً؛ ووضع عقوبات على صادرات تركيا الزراعية، ووجه تعليمات للمواطنين الروس لتجنب الشواطئ والمدن التركية….. استكمالاً للمواجهة العلنية المفتوحة، هاجم الرئيس بوتين ووزير خارجيته بحدة السياسة التركية الداعمة اقتصادياً لتنظيم «داعش» الإرهابي في سورية… الرئيس التركي أصر، واهماً، على إزاحة رئيس الجمهورية العربية السورية الدكتور بشار الأسد، وقرار الرئيس بوتين كان واضحاً، وقوياً، ومدوياً؛ لدعم الرئيس بشار الأسد مباشرة بالقيام بانتشار عسكري قوي في سورية… كما ركز على تفكيك الجماعات الإرهابية التي تدعمها تركيا والتي سعت، إلى جانب التحالف بقيادة الولايات المتحدة، إلى تدريبها وتسليحها.
قال: (ديميتار بيشيف) من مركز الدراسات الأوروبية في جامعة هارفارد: «انتقل أردوغان من القول إن (الشرق الأوسط وسورية يعتبران الفناء الخلفي الخاص بنا… إلى مناشدة الناتو التدخل السريع… وأن تكون مشاركة الأميركيين أكبر. إنه تحول كامل…).
كيف انكسر الحلم العثماني؟
بات من المؤكد أن هيبة العثمانيّة الجديدة قد انكسرت في أول مواجهة علنيّة ومفتوحة مع روسيا. فخطاب أردوغان العالي النبرة الذي ظهر في الأيام الأولى التي تلت إسقاط الأتراك المقاتلة الروسية، سرعان ما تراجع ضعفاً وتبدد ليصَدم متابعيه ومريديه… ويُلاحظ أن هذه اللهجة الضعيفة الخافتة تكشف المزيدَ من الخوفِ، وخشية حكومة أردوغان من التصعيد مع روسيا… بيد أن ما جرى يكشف واحدة من أعمق أزمات تركيا الحاليّة وأخطرها، والمتمثّلة بسياسة أردوغان وشخصه. ذلك أن أردوغان الذي كان يمتلك مشروعاً مزج فيه بين الطموح العثماني، ومشروع الإخوان المسلمين وبناء دولة تتجاوز الإرث الأتاتوركي… كان نجح فقط في تخليص الدولة التركية من سيطرة الجيش والقيام بما يمكن تسميته «قتل الأب» المتمثّل بكمال أتاتورك… وأصبح أردوغان وجماعته، في وضع حرج… وخاصة مع تورط أردوغان في الأزمة السورية ودعمه للتنظيمات الإرهابية…. لاشك أن سياسات حكومة أردوغان المتقلبة بل المتخبطة داخلياً وإقليمياً، ودولياً إضافة لدعمها المباشر وغير المباشر للتنظيمات الإرهابية جعل منها عرضةً للاستهداف…. لا أوروبا تستطيع ضمّها إلى اتحادها، ولا أميركا تواصل إعجابها بـ«نموذجها»… ولا الأطلسي المتمسك بعضويتها معنيّ بأجندتها الإقليمية… ولا روسيا تفوّت فرصة سنحت لتفجير عدائها لتركيا حتى لو تطلّب الأمر أن تعاقب موسكو نفسها حين تفرض عقوبات على أنقرة… إضافة إلى العداء مع إيران.. كل ذلك وغيره أخذ أردوغان وحكومته إلى نوع من التراجع والتقهقر الانعزالي…. بالمقابل فإن الوضع الإستراتيجي لتركيا أردوغان بات ضعيفاً، فالخلاف مع روسيا لن يُحلّ قريباً، والمراهنة على الحلفاء الأميركيين لن تجني سوى تكرار للخيبات…. يُستدلّ على ذلك من ثلاث وقائع: أولاها، أن موسكو تستثمر حادث إسقاط الطائرة إلى حدٍّ أقصى ليس فقط ضد تركيا لكن أيضاً لدفع الولايات المتحدة وحلف «الناتو» إلى كبح الاندفاع التركي… ولإثبات أنها في صدد تكريس الواقع بمشاركتها العسكرية في سورية. ثانيتها؛ أن مواقف واشنطن و«الناتو»، على رغم التزامها ما سُمي حقّ تركيا في الدفاع عن سيادتها، كانت متشدّدة في رفض أي مواجهة مع روسيا… والطلب منها تأمين حدودها مع سورية، وعدم قصر غاراتها على مواقع حزب العمال الكردستاني بدلاً من مواقع «داعش». وثالثتهما؛ أن أنقرة تلقّت رسائل العقوبات الروسية بحسّ العارف الخائف ما دفعها إلى البحث عن جهات لاستيراد النفط والغاز ومصادر أخرى للسياحة وأسواق جديدة لتجارتها… وفيما استجابت الولايات المتحدة و«الناتو» للتحذير الروسي، إلا أن الاشتباك الجوي أكد لهما أن روسيا أسقطت محاولة تركيا تنفيذ حرب بالوكالة عن أميركا ضد روسيا… نعم سقط الرهان الأميركي التركي… ونجح العملاق الروسي في حسم معركة كسر العظم مع أردوغان.. وهزيمة هذا الأخير في حرب شنها بالوكالة.