لعل المراقب لاجتماع قمة جامعة الدول العربية في دورتها الثانية والثلاثين التي عقدت في مدينة جدة السعودية تزداد لديه جرعة التفاؤل الحذر من تنامي الشعور القومي والخطاب التصالحي الذي تتبناه المملكة العربية السعودية منذ قمة جدة «للأمن والتنمية» في حزيران 2022، عندما أعلنت السعودية وبحضور الرئيس الأميركي جو بايدن أن المنطقة أرهقتها الصراعات والنزاعات الناشبة، وأن التنمية والتعاون باتت حاجة ملحة وضرورية لمعالجة كل التداعيات والآثار الناجمة عن هذه الصراعات المدمرة.
بالعودة للحديث عن دور العرب عموماً والجامعة العربية بشكل خاص في المرحلة المقبلة وما هو المأمول منها، فإن ذلك يمكن استعراضه ضمن حلقة متسلسلة من التطورات؛ حدثت قبل انعقاد قمة جدة، والمرتبطة بالسياسة الخارجية السعودية التي لا بد من الوقوف عندها قبل استشراف الواقع العربي مستقبلاً:
الحلقة الأولى من هذا التسلسل تأتي عن الآثار الجيوإستراتيجية من الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتوتر العلاقة التي تربط الديمقراطيين بمعظم دول الخليج باستثناء قطر، وهو ما دفع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان نحو تنويع سلة الحلفاء الدوليين ضمن توجهات السياسة الجديدة للمملكة العربية السعودية من دون معاداة الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما تؤكده الحفاوة التي استقبل بها الرئيس الصيني شي جين بينع أثناء زيارته للمملكة بداية العام الجاري، وزيارة ابن سلمان لروسيا العام الماضي.
الحلقة الثانية التوجه نحو إجراء مصالحة يمكن تصنيفها ضمن مسارات الحاجة المتبادلة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو ما قد يترتب عليه تخفيض مؤشرات العنف والاستفزاز بالمنطقة والانتقال فيها من صيغة الاشتباك والصراع إلى التشبيك والتعاون، بما يضمن تحقيق هدوء داخلي باتت الأنظمة السياسية هي بحاجة إليها لعدم اضطرارها لتحويل حروبها بالوكالة إلى حروب مباشرة، ويسهم بشكل أو بآخر بنسبة معينة لخلق مناخات تسهم في تعدد المبادرات والحلول السياسية لأزمات المنطقة، بدأت مفاعليها تظهر في الحوار اليمني وعودة سورية لجامعة الدول العربية وتشجيع طرفي النزاع في السودان لتوقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار واقتراب حسم انتخاب الرئيس اللبناني… إلخ.
الحلقة الثالثة تتمثل في الدور السعودي الذي لا يمكن تجاهله في الإسراع بإعادة سورية لجامعة الدول العربية بعد المساعي التي قامت بها كل من العراق والجزائر والإمارات بشكل متوازِ أو متلاحق خلال الأعوام السابقة، والحفاوة التي استقبل بها الوفد السوري وبشكل خاص الرئيس بشار الأسد، والاهتمام الإعلامي السعودي والإقليمي وحتى الدولي بحضور الرئيس الأسد وخطابه المقتضب الذي ألقاه ضمن أروقة اجتماع الجامعة، والذي اتسم بالبعد القومي وحدد ماهية المطلوب من هذه المنظومة في ظل المرحلة الحالية لمعالجة الخلافات البينية العربية ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية والارتقاء بالأداء العربي، وهو ما أزعج الإعلام الصهيوني الذي قال: «إن الجامعة العربية هي التي عادت إلى سورية»، وهو ما دفع أيضاً بعض وسائل الإعلام الأميركية للاعتراف بأن سورية قيادةً وجيشاً وشعباً قد انتصروا، ولعل السبب في ذلك الاعتراف العربي بأهمية ومكانة ودور سورية رغم جراحها العميقة، والإيجابية التي أبداها الرئيس الأسد مقابل إيجابية الخطوة العربية التي قادتها الرياض مؤخراً بالانفتاح على سورية، وغياب أي شكل من أشكال توجيه الاتهام أو اللوم على الدور العربي السلبي في الأزمة السورية خلال السنوات السابقة أثناء إلقائه لخطابه، بل تضمن الخطاب الدعوة لتفعيل الدور العربي عبر حل الخلافات والنظر نحو المستقبل بإيجابية.
هذه الحلقات الثلاث وغيرها قد توحي ببعض المؤشرات الإيجابية نحو تفعيل دور جامعة الدول العربية على الساحتين الإقليمية والدولية، رغم وجود بعض الحساسيات والحسابات المتناقضة التي دفعت بعض الزعماء لعدم حضور قمة جدة، إلا أن ذلك يمكن معالجته خلال المرحلة القادمة، فالصراع الدولي المتمثل في الساحة الأوكرانية وما ترتب عليه من تداعيات طالت مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والغذائية والطاقوية وغيرها، وتسارع تطبيق المشاريع الاقتصادية الكبرى وما رافقها من تبلور تحالفات جديدة، تفرض على العرب كافة التوجه نحو ما يلي:
أولاً- حل الخلافات البينية بين الدول العربية ليشكل ذلك نقطة ارتكاز تسهم في عدم تكرار خلافات الماضي، وتعزز من مناعة النظام الوطني لكل دولة في مسار التوجه نحو وضع رؤية أمنية مشتركة للعرب.
ثانياً- الاستمرار في تنويع الحلفاء الدوليين وخاصة الدول الصاعدة وتمكين ما تم إنجازه من تطوير للعلاقات، وهذا التنويع يجب أن يتم بشكل جماعي وليس فردي.
ثالثاً- استغلال المتغيرات والتطورات الإقليمية والدولية لتصحيح تموضع الجامعة العربية كمنظومة إقليمية واسعة تضم دولاً آسيوية وإفريقية وتمتلك أهم المواقع الجغرافية الدولية والثروات الباطنية وغيرها، بما يسهم في تحول الدول العربية عبر جامعتهم من دول قابلة للاختراق إلى دول مستقطبة وجاذبة للتعاون الدولي معها لحل الأزمات والانخراط في المشاريع الاقتصادية.
رابعاً- السعي العربي – العربي المشترك لإحداث تنمية شاملة في المنطقة العربية والاستفادة من إمكانات كل دولة بما تملكه من عوامل مفيدة اقتصادياً بما في ذلك قطاع الطاقة النظيفة، ومن شأن هذه التنمية أن تسهم في معالجة الخلافات الداخلية أو البينية بشكل تلقائي نتيجة تحسن الواقع المعيشي والاجتماعي والتنموي وتداخل المصالح.
لكن، ولنضع ألف خط أحمر تحت كلمة ولكن، لا يمكن بلوغ هذه الآمال والتي هي ليست بمستوى المعجزة أو الأوهام، إلا في ظل إعادة النظر بميثاق الجامعة ودورها وآلياتها، وهو ما يتطلب بالدرجة الأولى الإرادة السياسية للدول العربية التي يجب أن تمعن النظر كثيراً إلى الأحوال التي وصلت إليها بعض الدول العربية، ومقارنتها بالتقدم التكنولوجي والعلمي والاقتصادي والعسكري وغيرها من المجالات التي حققتها تكتلات حديثة لا تتوفر بها مقومات الأمة إلا مقوم المصلحة، لذلك فإن الفرصة اليوم سانحة لأن يحجز العرب مجتمعين وعبر جامعتهم مقعداً مؤثراً لهم في النظام الدولي الذي يشهد مخاضاً عسيراً قد يكون سيفاً ذا وجهين على العرب، إما استغلاله وإثبات المكانة والدور المؤثر، أو البقاء في مظلة الصراعات والخلافات التي حالت من دون مسايرتنا لتقدم حقيقي وضع أجدادنا نواته سابقاً، ومازلنا نتغنى به في الوقت الذي استثمره الغرب وعاش بنعمته.