انتهت قمة جدة العربية، وكثرت الكتابات والتحليلات حول نتائجها وأبعادها، حيث ذهب البعض نحو التفاؤل المفرط، بينما اتجه آخرون نحو التشاؤم المفرط، وكلا الاتجاهين ليسا صحيحين لأنهما لا يأخذان بالاعتبار العوامل العلمية والموضوعية في تحليل الظروف التي أدت إلى مثل هذه النقلة المفاجئة، ولأن رأينا العام بات يخشى كثيراً من التحليل الذي يقوم على اللونين الأبيض والأسود، أو المحبة والكراهية المفاجئة، وهي مناهج تفكير قائمة ومتداولة لكنها لم تعد مقنعة لأوساط واسعة من رأينا العام الذي يبقى حذراً نتيجة لما تعرضت له سورية طوال أكثر من عقد من الزمن، وهي تجربة قاسية ومُرّة بالنسبة لكل سوري، ولهذا نريد أن نتحدث عن ذلك بطريقة مختلفة قليلاً، كي أوصل مقاربتي بشكل بسيط ومفهوم، وهنا سأشير إلى أسباب التحول في الموقف السعودي الذي هو الأكثر أهمية تجاه ما حصل قبل القمة، أو خلالها، وما قد يحصل بعدها، وتبدو لي أن الأسباب عديدة ومختلفة، منها:
1-إدراك السعودية أن هناك لحظة تاريخية مهمة وواضحة، تتمثل في تغير موازين القوى العالمية، وبدء أفول القوة الأميركية، وتوجه العالم نحو تعدد الأقطاب الذي يتجذر ويتعزز عبر تجمعات عالمية وإقليمية مثل «بريكس»، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وآسيان وغيرها، وهذه التحولات تجري بسرعة في المجالات كلها، وخصوصاً مع بروز التحالف الروسي- الصيني- الإيراني، ومن خلفه الهند- البرازيل- جنوب إفريقيا- ودول الجنوب بشكل عام.
2- تزايد انعدام الثقة بالولايات المتحدة الأميركية كحليف يمكن الاتكاء عليه مستقبلاً، وهذه الثقة التي تزعزعت لم تكن وليدة اللحظة، بل تراكمت عبر مجموعة أحداث منها:
– منذ عام 2001 وأحداث أيلول في الولايات المتحدة، استمرت واشنطن باتهام المملكة بدعم الإرهاب، وتحول هذا الملف إلى سيف مسلط للابتزاز المالي.
– إسقاط النظام العراقي في بغداد عام 2003 دون تشاور مع السعودية، والبعض يتهم واشنطن أنها كانت على تواطؤ مشترك مع إيران، ووزير خارجية المملكة سعود الفيصل قالها ذات يوم إنه «تم تسليم بغداد لإيران على طبق من فضة» حسب تعبيره.
– لم تخفِ السعودية انزعاجها من الصمت الأميركي على سقوط الرئيس المصري محمد حسني مبارك لمصلحة الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي نقله الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز لوزير الدفاع الأميركي السابق روبيرت غيتس، وأشار إليه الأخير في مذكراته بعنوان «الواجب» إذ عبر الراحل عبد الله عن الامتعاض الشديد من سلوك الولايات المتحدة، وتخليها عن حلفائها بهذه الطريقة المهينة، واللافت في الأمر أيضاً أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر عن خيبته من تخلي أميركا لاحقاً عن محمد مرسي الإخواني!
– كان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الأكثر صراحة في التعبير عن هذا الرأي في حديثه لمجلة «ذي أتلانتيك»، حيث رأى أن السعودية بحاجة لسلام بارد مع إيران كي تستقر المنطقة، واعترف بالإخفاق في ليبيا، وبصوابية قراره التراجع عن ضرب سورية عام 2013 لأنه كان يعتقد أنها منحدر آخر مثل العراق، وانتقد بشدة المعايير الدينية الصارمة في السعودية، وتصديرها للفكر الوهابي، إندونيسيا مثالاً، كما أوضح أنه لا مكان للرحلات المجانية التي يريدها البعض على حساب الولايات المتحدة دون أن يشاركوا في الجهود العسكرية الأميركية حيث يبقون خارج اللعبة بعد تورط أميركا.
– محاولة أوباما تبرئة ساحة الولايات المتحدة الأميركية من الحروب الطائفية والمذهبية الطاحنة في المنطقة، باتهامه الدول الحليفة لأميركا أنها تريد جرها لمثل هذه الصراعات، مشيراً أنها لن تتدخل عسكرياً في المنطقة، وستركز على آسيا، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية.
– لكن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رد لاحقاً على أوباما في مقابلته مع صحيفة الـ«واشنطن بوست» في آذار 2018 حينما قال: «إن جذور الاستثمار السعودي في المدارس، والمساجد تعود لفترة الحرب الباردة عندما طالب الحلفاء السعودية باستخدام مواردها لمنع الاتحاد السوفييتي من تحقيق نفوذ في الدول الإسلامية»، واعترف ابن سلمان بشجاعة لم يعتد عليها كثيرون بالنسبة للسعودية أن: «الحكومات السعودية المتعاقبة ضلت الطريق، وأنه يتوجب علينا إعادة الأمور إلى نصابها».
3- إذا أضفنا لكل هذه المقاربات الأميركية التفاوض السري الأميركي – الإيراني في عُمان لمدة سنتين حول الاتفاق النووي، وعدم إعلام السعودية بذلك، ولا بمضمون الاتفاق الذي وقع عام 2015، وكذلك عدم الانخراط الأميركي المطلوب في حرب اليمن، وترك السعودية وبعض دول الخليج لمصيرهم، واستنزافها مالياً، وسياسياً، وإعلامياً، والصمت المطبق حينما تعرضت منشآتها النفطية للاستهداف ما أدى لخسائر مالية ضخمة وكبيرة، سنجد أن الخيبة ازدادت أكثر.
4- إن رصد هذه الأحداث، والوقائع المتتالية التي راكمت مظاهر انعدام الثقة بين السعودية والولايات المتحدة يمكننا أن نفهم أكثر حقيقة ما أقدم عليه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من إجراءات وتغييرات واسعة داخل المملكة وخارجها، ومنها:
-إحداث تغيير اجتماعي وسياسي واسع في بنية المجتمع السعودي، منها: الإطاحة بالمنظومة الوهابية والإخوانية ومرتكزاتها، وإطلاق حرية للمرأة، وإشراك الشباب الذين يشكلون 60 بالمئة من المجتمع السعودي.
– وضع رؤية تنموية إستراتيجية للمملكة «رؤية 2030»، يريد من خلالها تحويل الاقتصاد السعودي من اقتصاد ريعي يحقق نمواً، إلى اقتصاد منتج يحقق تنمية حقيقية تأخذ بالاعتبار مرحلة ما بعد النفط من خلال استثمارات هائلة في قطاعات التكنولوجيا العالية، والطاقات المتجددة، والمدن الذكية، والسياحة، والثقافة، والرياضة، وغيرها الكثير.
– إن هذه الرؤية التنموية الجديدة تتطلب بيئة سياسية مختلفة تماماً عن العقدين الماضيين «عقود الخيبات» إن صح التعبير، باتجاه تبريد الساحات، وتصفير المشاكل، من اليمن إلى المصالحة مع إيران، إلى التوقف عن الانخراط في صراعات طواحين الهواء التي لم تنتج شيئاً لأحد، كما تحتاج لتنويع الخيارات الاستراتيجية الدولية، منها تعزيز التعاون مع الصين، وروسيا، والانضمام للتكتلات الدولية الجديدة، بريكس وشنغهاي، ما يساعد السعودية على تسخير مواردها لخدمة مصالحها في عالم يتحول بسرعة، وإعادة رسم دورها الجديد بجسر من العلاقات المتوازنة بين الشرق الصاعد، والغرب، والخروج نحو دور القوة الإقليمية الوازنة العربية والإسلامية التي تستخدم القوة الناعمة في تحقيق مصالحها، وفي تأمين الاستقرار الذي يخدم الجميع.
4- النقطة الأخيرة والسؤال الأهم: أين سورية من كل ما سبق؟
تقع سورية في قلب هذه التطورات، والأحداث ولابد من الإشارة إلى أن السعودية قطعت بشكل واسع تدخلها بالشأن السوري منذ عام 2018، حسبما قال الرئيس بشار الأسد لوسائل إعلام روسية، واتجهت نحو بناء جسور مع دمشق بدءاً بالاتصالات الاستخباراتية السرية والمعلنة، ثم ارتفعت للسياسية قبيل انعقاد القمة العربية، وصولاً لدعوة الرئيس بشار الأسد لقمة جدة العربية.
دمشق مهمة جداً للرياض، مع التوجهات الجديدة لولي العهد السعودي:
– دورها المركزي في القضية الفلسطينية، وفي دعم حقوق الشعب الفلسطيني في مواجهة الفاشية الصهيونية المتصاعدة، وعودة السعودية للموقف التقليدي لها تجاه قضية فلسطين، وتجميد موضوع التطبيع.
– الاقتصاد والاستثمارات وموقع سورية الجغرافي.
– تعزيز التوجه الاجتماعي والثقافي والإسلام المعتدل والفن والموسيقا، ودمشق نموذج مهم، وأعتقد أن دعوة المفكر السوري أدونيس للمملكة كانت رسالة قوية لما يريد إحداثه ولي العهد السعودي داخل المملكة من انفتاح لدى النُخب السعودية، والتي يجب أن نعترف أنها موجودة ووازنة وذات تأثير، والتفاعل بين النُخب السورية والسعودية مهم للغاية في المستقبل.
– دمشق وما تمثله من تحالفات مع القوى الصاعدة الجديدة في الإقليم والعالم فهي حليف مهم لروسيا والصين وإيران، إذ بذلت موسكو جهوداً كبيرة للوصول إلى هذه المرحلة من العلاقات بين سورية والدول العربية، وخاصة السعودية، وكان لافتاً أيضاً أن وزارة الخارجية الصينية هنأت الرئيس الأسد بلم شمل الأسرة العربية، وأكدت أن مشاركة سورية في القمة العربية في جدة تثبت قدرة الدول العربية على تولي مصيرها، ومستقبلها بنفسها.
– النقطة التي يجب أن نفهمها أيضاً أن المرحلة القادمة ستأخذ بعين الاعتبار استقلالية القرار لكل دولة عربية، وحريتها في نسج العلاقات التي تحقق مصالحها، وإنتاج آلية حضارية لإدارة الأزمات والخلافات.
أخيراً، لسنا بحاجة للتأكيد على البعد العربي، وعلى التاريخ في العلاقات الثنائية بين سورية والسعودية، وبين سورية والدول العربية الأخرى، لكننا فعلاً أمام مرحلة جديدة تاريخية يجب أن تأخذ بالاعتبار حاجة الشعب العربي في كل مكان للتنمية والنهوض، وفرص العمل والتعليم والصحة، وما لم يتم الخروج من مآسي العقدين الماضيين، أعتقد أن العرب سيتحولون إلى هنود حمر، ولن يتحدث عنهم أحد إلا كذكرى، وأمة كانت موجودة ذات يوم.
القضية ليست في التفاؤل أو التشاؤم، وإنما في قراءة الأحداث والتحولات، وكيفية الاستفادة منها لمصلحة بلدنا وشعبنا، وتعزيز قدرتنا على التشبيك المتعدد الأطراف للنهوض كشعب يستحق بجدارة لقب الشعب الصابر والشجاع، المبدع، وهذا يطرح علينا جميعاً السؤال التالي: ماذا نحن فاعلون؟ بعد قمة جدة العربية، ليس ما هو مطلوب منا إنما ماذا نريد نحن من الآخرين، وماذا نحضر لهذه المرحلة التاريخية الجديدة؟ لقد دخلنا مرحلة مختلفة من التحديات وهي مرحلة قد تكون أكثر حساسية مما مضى.