عام 2016… «ليس للإنسان إلا ما سعى»
| بنت الأرض
في غمرة استذكار ما كابدناه في العام المنصرم، والأعوام التي سبقته، واستحضار الأمنيات والتوقعات للعام الجديد، كنتَ أنتَ الحاضر الأبرز في ضميري ووجداني أيها المرابط على مساحة الوطن، والمدافع عن ترابه وحريته واستقلاله ضدّ كلّ أنواع التكفير والإرهاب والتخريب. كنتَ ببزّتك البهية، وهامتك الشامخة، ودمائك الزكية ممثلاً لكرامة سورية، وعنفوان شعبها الصامد المقاوم، وكانت والدتك وزوجتك وأبناؤك معي يبتهلون إلى اللـه أن تعود إليهم لتملأ ابتسامتك أنحاء البيت، وحين تيقّنوا من استشهادك، وضعوا صورك في أنحاء الحيّ والقرية والمدينة اعتزازاً بغيرتك على بلدك، وترسيخاً لقيم الشهادة النبيلة. حدثتك ونحن نغلق صفحة عام مضى بأن جهادك ضدّ الإثم والعدوان الصهيوني، الذي ينوب عنه الإرهاب الوهابي حالياً، هو الذي جعل من سورية قلعة صمود، وهو الذي غيّر مواقف العالم من سورية، وهو الذي بعث الأمل في نفوس الملايين أن سورية باقية بقاء الدهر، صامدة صمود الزمن، وأنّ تاريخ أقدم مدينة مأهولة في التاريخ قد صُنع على أيدي أمثالك ممن رفضوا الخنوع والاستسلام أو التسليم للقوى الظالمة القاهرة. وفي غمرة آخر مساء لعام حافل بالألم، استذكرت كلّ الأذى الذي لحق بمعامل بلادي ومدارسها، واستكبرت حجم العمل اللازم كي نعيد بناء كلّ ما تمّ هدمة وإحراقه. واستذكرت… واستذكرت… ولكن، وقبل أن ينال مني وهمُ العمل المطلوب، وحجم الإرادة اللازمة لمواجهة مثل هذا التحدي، استذكرت شيئاً آخر، ومثلاً آخر قريباً جداً، وما زال ماثلاً أمام ناظري.
استذكرتُ ما قاله الرئيس أوباما عن روسيا عام 2014، أنه يجب عزل روسيا، وأيّده بذلك أمين عام حلف الناتو، وردّدَ الأوروبيون في ذلك العام لازمة أنه يجب عزل روسيا، وأنّ عزلة روسيا تتعمّق يوماً بعد يوم. ثمّ حضرت أمام ناظري صورة اللقاء الأخير للرئيس أوباما والرئيس بوتن مع مستشاريهما في قمّة المناخ المنعقدة في 30 تشرين الثاني المنصرم في باريس، فرأيت لغة الجسد للرئيس أوباما آذاناً مصغية للرئيس بوتن. وها هي روسيا اليوم مع شروق عام 2016 تكتسب مصداقية دولية كقطب أساسي في محاربة الإرهاب، واحترام الشرعية الدولية، واحترام سيادة الدول، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. في زمن قياسيّ جداً تمكنت روسيا الاتحادية من تقويض كلّ مخططات الغرب لها، وقفزت فوق كلّ الأسلاك الشائكة التي حاولوا محاصرتها بها، وغرست قدميها على أرض ثابتة، وارتفعت هامتها بين الأمم لتصبح مثالاً للإدارة والتخطيط والعمل الإستراتيجي المدروس بأناة وذكاء فائقين. ولكنّ مثل هذا الإنجاز لا يمكن تحقيقه من خلال الأمنيات، أو الضجيج الفارغ في الإعلام، بل لا بدّ من بذل أخلص الجهود، والاعتماد على خيرة الخبراء، وتفجير كلّ الطاقات الكامنة في عقول وقلوب وسواعد المؤمنين والمخلصين. ولا بدّ من أجل كلّ هذا من الإيمان العميق والمطلق بأن «ليس للإنسان إلا ما سعى، وأنّ سعيه سوف يُرى، ثمّ يُجزاه الجزاء الأوفى». والسعي هنا أمر مهم وخاص ومفتاحي لأنه يعبّر عن الإيمان ببذل الجهود المستمرّة في الليل والنهار، ورغم كلّ الإحباط والفقر أن يستمرّ السعي، تماماً كما كان السعي بين الصفا والمروة حين ضاقت السبل بحثاً عن نقطة ماء، حين كافأ اللـه هذا السعي وفجّر نبع زمزم ليشرب منه الناس على مرّ العصور.
إذاً، وبعد الترحّم على أرواح الشهداء، والدعاء للجرحى بالشفاء، علينا جميعاً أن نعاهدهم أننا سوف نسعى، نحن وكلّ الأجيال القادمة، كي نكون أهلاً لتضحياتهم، وأنّ سعينا سوف يشمل الفكر والعمل والإرادة، وسوف يتطلب، حكماً، إعادة النظر بكلّ الثغرات التي ساعدت مستهدفي هذه البلاد من تحقيق بعض أهدافهم. كما أن سعينا سوف يشمل الاستفادة من كلّ الصامدين والجبارين الذين دحروا الظلم والعدوان بالإرادة والفكر والتخطيط، ووضع الأمور كلها في نصابها السليم. في حمأة الشعور بالمسؤولية، يجب أن نعترف أن المعركة القادمة ربما تكون أشدّ مضاء وأصعب وقعاً من كلّ المعارك التي خضناها رغم كلّ صعوباتها وآلامها، لأن المعركة القادمة تحتاج إلى إعمال الفكر والضمير والخبرة والبناء على تجارب الآخرين، وتحتاج قبل هذا وذاك إلى مواجهة صريحة وجريئة مع الذات، والتوقف عند مواطن الخلل، ودراسة أسبابها، وسبل التخلّص منها مهما بدا هذا صعباً أو مؤلماً أو محرجاً أو حتى مستحيلاً.