القناعة كنز…. يفنى؟…الحياة لا تعطينا كل ما نحب…
ديالا غنطوس:
عندما نخلد إلى ذاتنا كل يوم وفي لحظة صدق وأنانية، ننظر إلى الآخرين وما يملكون ونتساءل.. لماذا لم أولد غنياً، لماذا لم أخلق جميلة؟ ما سبب امتلاك صديقي ما ليس لدي وبماذا يتميز الآخرون عني ليحصلوا على أشياء وأحوال لم يهبني اللـه إياها، هل الحظ نعمة لأناس مميزين والنحس نقمة لآخرين أقل تميزاً؟ وكما يقول المثل الشعبي «المنحوس منحوس ولو وضعوا فوق رأسه فانوس»، أين القناعة كلها من تساؤلاتنا الصامتة والتي لا نجرؤ على الإفصاح عنها والبوح كي لا نتهم بالحسد، وفي حقيقة الأمر لا توجد قناعة تامة صافية، فغالباً ما ننظر إلى ممتلكات الآخرين بشغف ورغبة أن تكون لنا، ونعود إلى القناعة على مضض، فما باليد حيلة، وكما تقول إحدى الحكم «في العالم كثيرون من يبحثون عن السعادة وهم متناسون فضيلة القناعة» ومن وحي الإيمان «طوبى للقنوعين فإنهم سعداء الأرض».
أرض السعداء بقناعتهم، قد يصفها أحدنا متهكماً بأنها أشبه بالمدينة الفاضلة التي كانت أحد أحلام الفيلسوف أفلاطون، يكون كل شيء فيها معيارياً بحيث يضمن اقتناع الناس ورضاهم بما لديهم، لكن من قال إن معيارية الحياة وكمالها هما دوماً أساس الرضا؟ قد تدبُّ القناعة في نفس شخصٍ ابتلي بكل ما أنزل اللـه من مصائب ومحن وفقدان، ومن صُلب بلواه وقنوطه من تغير الحالِ لحالٍ آخر، تأتي القناعة التي تؤمِّن له القدرة على قبول الواقع كما هو والتصميم على تحسينه واجتياز الملمّات، وكمثال لما سبق، نرى فيلم «السعي للسعادة» المبني على قصة حقيقية لـ«كريستوفر غاردنر» للمخرج غابرييل موتشينو ومن بطولة الممثل ويل سميث الذي أدى دور كريس، الرجل الذي يحاول بشتى الوسائل توفير سبل الراحة والحياة الكريمة لعائلته الصغيرة، استثمر كريس كل مدخرات عائلته في أجهزة طيبة محاولاً بيعها للأطباء، لكن عدم قدرته على ترويج تلك الأجهزة أدى إلى وقوعه في ضائقة مالية، تسببت بهجر زوجته له وانتقالها للعيش في المدينة، تاركة خلفها ابنها كريستوفر ليعيش مع والده، فيكرس نفسه للاهتمام بابنه، لكن الوضع يتأزم بعد حجز حسابه البنكي بسبب عدم تمكنه من دفع الضرائب المستحقة، ويتم طرده هو وابنه من المنزل لعدم تمكنه من دفع الإيجار، ليصبحا بلا مأوى، وقد وصل بهم التشرد لحد البقاء لفترة في أحد حمامات محطة مترو الأنفاق، قبل أن يلجأ لإحدى الكنائس التي أمنت له غرفة مؤقتة بظروف معيشية يرثى لها، لكن من خلال قناعته بما يملك من موهبة وإمكانات، وما تبقى لديه من مقومات للنهوض من جديد، يسعى بكل تصميم للحصول على وظيفة جديدة كسمسار في البورصة، وبالرغم من وجوب خضوعه لستة أشهر من التدريب بلا أجر يتنافس خلالها مع متدربين آخرين قبل تعيين أحدهم، إلا أن إصراره المترافق مع المعاناة يمكنه من النجاح والوصول لهدفه وللسعادة التي لم يفقد يوماً قناعته بإمكانية بلوغها.
وفي الجهة المقابلة، نصادف قصصاً شتى لأناس لم يستكينوا لظروفهم ولم يستسلموا لفقدانهم القناعة بما هم عليه من حال، فقرروا الانقلاب على الواقع ونسف كل شيء قائم واستبداله بجديد، يصل الأمر ببعضهم لدرجة تغيير ذواتهم وأساس تكوينهم، كما في القصة التي رواها فيلم «طبيعي Normal» عام 2003 للمخرج جين أندرسون والممثلين القديرين جيسيكا لانج وتوم ويلكينسون، حيث إنه بعد مرور 25 عاماً من الزواج الهانئ المستقر، يصارح روي زوجته إيرما بأنه امرأة من الداخل وشاء الحظ العاثر أن يخلق بجسد رجل، وبأنه ينوي القيام بعملية لتبديل الجنس، الأمر الذي سبب له إحراجاً أمام بعضٍ من زملائه في العمل وعرّضه لانتقادات جمة في الوسط الاجتماعي المتدين الذي يعيشون به، إلا أن دعم وتفهّم زوجته وابنته وبعض الأصدقاء كان عاملاً مشجعاً له ليحقق ما يرضيه وما هو على قناعة تامة به.
«أشعر بالرضا عن نفسك، بغضِّ النظر عن الظرف الصعب الذي تجلبه الحياة، استقبله بأذرع مفتوحة، وتذكر أنه مؤقت وأنَّ لديك القدرة أن تواجه وتقاوم»، هذه الحكمة هي خلاصة قصة الفيلم الإيطالي «الحياة جميلة Life Is Beautiful» الذي تدور أحداثه في ثلاثينيات القرن الماضي ويروي التجربة التي عاشها غويدو، اليهودي الإيطالي، الذي يملك متجراً للكتب في مدينة أريزو، ويعيش مع زوجته وطفله الوحيد ذي السنوات الخمس حياة لم يعكر صفوها شيء، قبل وصول القوات الألمانية لإيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية ودخولهم لمدينة أريزو التي يعيش بها، ليتم اقتيادهم حينها إلى معسكر الاعتقال ويتم الفصل بين الزوجة وزوجها فكل منهما يساق إلى قسمين أحدهما مخصص للرجال وآخر للنساء، فيحتفظ غويدو بابنه بصحبته ويخبره بأن كل ذلك عبارة عن لعبة يلعبونها وعليهم اجتياز مراحلها بنجاح، وخلال اللعبة عليهم محاولة الهرب بحذر من المخيم مع والدته، وأن كل خطوة صحيحة يخطونها تكسبهم نقاطاً إضافية والعكس صحيح بأن الحسابات الخاطئة قد تؤدي إلى استبعاد أحدهم من اللعبة، وهدفه من كل ذلك كان إنقاذ عائلته من المخيم من دون اكتشاف الألمان لما يقوم به مع ابنه، وابتدع غويدو الأساليب البارعة من خلال قناعته التامة بأن الهولوكوست ما هو إلا لعبة، وأن الجائزة المرجوة هي الخلاص والبقاء على قيد الحياة، فكانت نتيجة تلك القناعة الراسخة بقدرته على التخطيط والتنفيذ أنه كسب ذاك الرهان ونجا بأعجوبة بعائلته التي تمكن بشق النفس من الوصول بها إلى بر الأمان.
نصادف في مسار حياتنا اليومية كثيراً من الناس المنكوبين والغارقين بالفقر والعوز، ومنهم من يفتقد أبسط مقومات العيش الكريم التي يعتبرها بعضنا من البديهيات التي تستحيل الحياة من دونها، وفي ذات الوقت نرى البسمة مرسومة على شفاههم، وفي روحهم إصرار وفي أعماقهم أمل، مقتنصين أي لحظة سعادة عابرة، متحلين بصبر ناتج عن قناعة لا يملكها من أتى الدنيا وفي فمه ملعقة من ذهب، فالقناعة تولد من رحم الرضا والتسليم بما هو مكتوب ومحتوم، بعد الأخذ بالأسباب وبذل ما يمكن من جهد لتغيير ما هو واقع مفروض.