شكل ظهور «المجلس الوطني السوري» بإسطنبول شهر تشرين الأول 2011 محاولة تحاكي نظيرتها الليبية التي نجحت، بدعم وإسناد «الناتو»، في إسقاط النظام الليبي قبيل ثلاثة أشهر من هذا التاريخ الأخير، ومع تسارع التطورات على الساحة السورية وفشل «الفورة» نفسها في تكرار السيناريو الليبي لاعتبارات سورية داخلية بالدرجة الأولى، ثم لاعتبارات لها علاقة بالموقفين الروسي والصيني اللذين قدما دعماً إسنادياً في مجلس الأمن حال دون ذلك التكرار، نقول مع ذلك التسارع، والفشل، الحاصل آنذاك، أطلقت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون «صرختها» الغاضبة من زغرب، شهر تشرين الأول من العام 2012، معلنة وجوب «تأسيس كيان معارض أوسع» الأمر الذي تحقق بعد مرور نحو شهر على تلك «الصرخة» ليشهد شهر تشرين الثاني ولادة «الائتلاف السوري» المعارض ككيان بديل.
بشكل ما كانت ولادة «الائتلاف» نوعاً من الصدام ما بين أنقرة الساعية لتثقيل «الإسلاميين» الذين يشكلون ذراعاً هي الأمضى لمشروعها، وبين واشنطن الساعية لتطعيم هؤلاء بمجموعة من «الليبراليين» تكون ذات وزن، وهي أيضاً ترى في هؤلاء ذراعاً لتحقيق مشاريعها في المنطقة، بينما أعطت عملية اغتيال السفير الأميركي ببنغازي الذي تصادف مع حلول الذكرى الحادية عشرة لأحداث أيلول 2001 بنيويورك دافعاً قوياً لواشنطن في سعيها ذاك، وما نتج عن ذلك الصدام كان «توليفة» تبدو واضحة المعالم لجهة إدارتها التي بات يتحكم بها «مفتاحان» الأول في أنقرة والثاني في واشنطن وإن كان من الواضح أن التأثير الأكبر يميل للأول، أي للمفتاح التركي، شريطة ألا تحدث التصادمات من جديد.
تغيرت المعطيات بفعل حدثين بارزين أولهما سقوط حكم «الإخوان المسلمين» بالقاهرة شهر تموز 2013، وثانيهما التدخل العسكري الروسي بسورية شهر أيلول 2015 الذي حصل في حينها بموافقة أميركية صريحة، وكلا الحدثين كان لهما تداعياته الكبرى على تركيبة «الائتلاف» وحجم الدور الذي يضطلع به، ثم على آليات عمله التي بدت مشوشة انطلاقاً من تلك التداعيات التي راحت مفاعيلها تظهر على أدوار «اللاعبين»، فكيف، والأمر إذا، بنظيرتها على الملحقين أو التابعين، وعندما حصل الصدام الروسي التركي على الأراضي السورية، بعد نحو شهرين من «عاصفة السوخوي»، بدا وكأن ثمة آمالاً «مشروعة» راحت تتنامى عند «الائتلافيين» لينقشع «الضباب» صيف العام 2016، الذي شهد لقاء الرئيسين التركي والروسي، كاشفاً عن حقيقة مفادها أن سياسات الدول تتحدد، بالدرجة الأولى، عبر الوقائع التي تفرضها ثنائية «القوة والمصلحة»، والانقشاع نفسه سيدخل مرحلة هي أكثر «صفاء» للرؤية بعيد انخراط الطرفين، أي الروسي والتركي، في مسار جمعهما جنباً إلى جنب إيران العام 2017 أطلق عليه «مسار أستانا» الذي هدف لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية «تستظل» بـ«مسار جنيف» والقرارات الدولية ذات الصلة كما أعلن أطرافه في بيانهم التأسيسي الأول.
كانت قراءات «الائتلاف» ما بعد «أستانا» تفيد بأن من الممكن تحقيق مكاسب من هذا الأخير مادامت مواجهته متعذرة انطلاقاً من أن المواجهة ستضع القائم به أمام خيارات صعبة ليس من السهل التغلب عليها، ولذا كانت سياساته تقوم على «تقطيع الوقت» لعل القادم يحمل معه آمالاً بالخروج من مأزق كهذا، أما الرهانات الأبعد فتقوم على رؤية مفادها أنه إذا ما تعذر الوصول إلى المرامي عبر «العسكرة» و«الاستقواء» بالخارج، فلربما يمكن الوصول إلى تلك المرامي بوسائل وأدوات أخرى، والراجح هنا هو أن أنقرة لعبت دوراً بارزاً في مناغاة مشاعر «الائتلافيين» في رهانهم الآنف الذكر، وإن كان ذلك لفترة محدودة ما بين منتصف العام 2021 ومنتصف العام الذي يليه حيث سيشهد هذا الأخير حدثاً بدا وكأنه الأثقل وطأة على الائتلاف الذي كان قد أتم عامه الحادي عشر أو هو قارب على أن يتمه.
عندما انطلقت شارة أنقرة الأولى نحو دمشق شهر حزيران من العام الماضي كانت القراءة عند «الائتلافيين» جازمة بأن الفعل لا يعدو أن يكون خطوة مرحلية فرضها «بازار» الانتخابات التركية التي كانت قد دخلت، آنذاك، عدها التنازلي، وبمرور الوقت راح «الجزم» يتبدى خطؤه شيئاً فشيئا، حتى إذا ما حدث اللقاء السوري التركي على مستوى وزراء الدفاع أواخر العام المنصرم راح فعل التبدي يصبح أقل من الواقع، أو هو يشبه النظر بعين واحدة بل إن قدرتها على الرؤية لا تصل لنصف نظيرتها عند العين الطبيعية، لكن مع ذلك كله ظلت الرهانات على أن «سكة العربة» دونها الكثير مما يجعلها أقرب إلى المعطوبة.
لم تستطع مناخات الانتخابات التركية حتى في أوج سجالاتها، ولا استطاع الانتقاد الذي وجهه الرئيس بشار الأسد للسياسة التركية من على منبر القمة العربية الأخيرة، أن يهمشا تداعيات الأزمة السورية على الداخل التركي، فقد استبق الرئيس التركي جولة الانتخابات الثانية بالدعوة للتعاون ما بين أنقرة ودمشق لحل رزمة المشاكل العالقة بينهما، وفي الغضون أوردت مصادر أن الأولى أبلغت «الائتلاف السوري» أنها ماضية في خطوات الانفتاح على الأخيرة ضمن الخطة التي يتم الاتفاق عليها وفق المسار الروسي الإيراني، والمصادر نفسها ذكرت أن «الائتلاف» يسعى إلى رفع وتيرة التنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كخيار بديل قد تصل في تداعياته لتنفيذ انسحاب جزئي من تركيا باتجاه قطر.
ما تريد هذه السردية قوله هو إن «الائتلاف السوري» يمثل، أو هو أراد لنفسه أن يكون، كينونة وظيفية ترتبط سياساتها، وحجم الدور الذي تقوم به، بحالة الاحتياج التي تتحدد هنا تبعاً لـ«المشغل» الأول ثم الثاني مع محاولة اللعب على تناقضاتهما، وفي المطلق لا تشكل تلك الكينونة «حالة وطنية» يمكن لها أن تكون طرفاً في تسوية سياسية محتملة لأزمة بلاد سعى للاستثمار فيها بطريقة جائرة على مواطنيها.