ثقافة وفن

«الحكيم» شريط سينمائي أخلاقي المبدأ … ديانا جبور: الفساد وريث شرعي لإرهاب الحرب

| نهلة كامل

تختار المؤلفة ديانا جبور الجانب الأخلاقي عند سردها السينمائي للواقع في فيلمها السينمائي الأول «الحكيم» من إخراج باسل الخطيب وإنتاج المؤسسة العامة للسينما… وتطمح إلى كشف «التلوث الذي يصيب المجتمع… بيرجمان.. وبما يأتي متوافقاً مع عين الإنتاج، وحضور السينما السورية في المهرجانات والمنتديات السينمائية.

رمز الحكيم

ويتوازى خطا الواقعية والأخلاقية في «الحكيم» مع رؤية فرضت نفسها على سينما المؤسسة منذ 12 عاماً، وترى جبور أن ظروف ما بعد الحرب لم تنفرج عن مجتمع يغسل عن نفسه أزمات الاقتصاد وتبدل القيم، ما جعل الفساد وريثاً شرعياً لإرهاب الحرب السورية في المدينة والريف.

وتختار المؤلفة عند تصوير الواقع الجديد، رموزاً أصيلة طالما فاخر بها المجتمع السوري، حيث كانت خشبة خلاص حياة أغرقها الفقر والنسيان في الماضي، وهاجمها الفساد والاستثمار في الحاضر، مستندة إلى مبدأ «إن الإنسان هو أكثر المصادر الحاسمة في إثراء التجربة السينمائية.. «إيزنشتاين»، فكانت شخصية «الحكيم» منذ القرن العشرين إلى جانب الأستاذ الذي برع في تقديمه فيلم الطريق لعبد اللطيف عبد الحميد، أهم الرموز الاجتماعية التي حققت أنماطاً سينمائية تقوم على مبادئ الخير والرحمة والمحبة في طلب الحياة.

ورغم تجاربها الدرامية السابقة الناجحة مسلسلا «خريف العشاق وشرف» إلا أننا نجد جبور تسير بحذر وتهيب بين خطوطها الدرامية السينمائية، وتسرد باقتضاب فلا تضيف إلى موضوع الفيلم «زوايا هامشية» وتفتعل أحداثاً مشوقة ومشاهد مغرية أو صادمة للمتفرج.

وتطمح جبور إلى توليف التشويق من داخل السرد كصورة بديهية لرمز اجتماعي كبير: الحكيم… الذي عايشت وجوده في الريف.. وقد أدركت في تجربتها السينمائية الأولى أهمية إعادة إنتاج هذا الرمز الأصيل واستثمار أخلاقه في مجتمع ما بعد الحرب، حيث يحمل كل منافي ذاكرته اسم حكيم في القرى والمدن ترك بصمته الإنسانية والعلمية بل التربوية أيضاً على مجتمع بكامله. وهو في الفيلم الطبيب الذي اختار العودة إلى العيش مع أبناء قريته، وبذل الجهد والعلم لتقديم حلول شتى لمشكلاتها الصحية والاجتماعية… ولا تخفي المؤلفة انبهارها بهذا الرمز لأنه دلالة على ممارسة الحكمة من خلال الطب والمسؤولية والضمير.

الرمز السينمائي

ولو انتقلنا من الرمز الواقعي إلى توليفه السينمائي لدى المبدع باسل الخطيب لوجدنا أنه كعادته يريد إنجاز «فيلم واقعي يعرض بطريقة سينمائية ما هو أكثر من الواقع» وقد تعمقت تجربته السينمائية بهذا الاتجاه خلال اتجاهه إلى السينما مع ارتباطها بالظروف الاجتماعية الجديدة…

ويختار الخطيب لتوليف شخصية الحكيم السينمائية شخصية فنية مكرسة كرمز في الفن السوري، ويعطي مهمة توصيل مفهومها الإنساني للفنان الكبير دريد لحام وبما له من صدقية ورصيد لدى المشاهد السوري والعربي.

ويستند الخطيب إلى مفهوم أن «لكل ثقافة رموزها الخاصة» وهو يستند إلى لحام لإعادة إنتاج شخصية درامية بعد إفرازات الحرب وشرور تجارها، بعد تعاونهما الناجح والجميل في فيلمه السابق «دمشق-حلب».

ولا تتناقض خبرة الخطيب المتطورة والمتراكمة، وكاميرا مشهده الطليق، وخطوات واقعه الواسع مع التجربة السينمائية الأولى لديانا جبور المحصورة ببساطة المجتمع القروي وأفقية شخصيات اتسمت كلها بالطيبة ورومانسية الخير والمحبة والتعاون التي تشكل لديها مجتمع ما قبل إفرازات الواقع الجديد.

وتجد المؤلفة أن المجتمع القروي هو المكان الأمثل لتسجيل الارتدادات وتبسيط نموذج الواقع، دون تسطيحه، وتنفيذ مفهوم سبق جان رينوار التأكيد عليه بالقول: «لن يكون لأفلامنا قيمة إلا إذا كانت انعكاساً صادقاً لهذا العالم الجديد»… ترصد جبور العالم الجديد بعد الحرب وتحاول احتواء تغييراته ضمن حدود القرية والدلالة الإنسانية في رمز متفق عليه «كالحكيم».

ولعل مقاربة توليف الشخصيات ورسم المكان والتوقف عند الزمن الدرامي وجماليات المكان البكر، وبراءة النفس البشرية، ستظهر لنا تأثر جبور بالقرية الرحبانية التي استطاعت بأسلوبها الرومانسي حصر اجتياح الشر والانتصار للخير.

وسيجد باسل الخطيب في هذا المكان النموذجي، وزمن الانتقال إلى واقعية جديدة، وذاك الثراء في احتضان الجمال البكر أسلوباً درامياً يحقق هدف التعبير عن الواقع السينمائي بالواقع وفرصة لتحويل الألم الشخصي إلى عام، هذا النمط السينمائي الذي حقق للخطيب استجابة جمهوره منذ تألق تجربته في فيلم «سوريون» التي بدأت رصد الواقع الجديد للمجتمع السوري.

قرية مختبرية

واقعية قرية «الحكيم» بقلم جبور وكاميرا الخطيب، لا تكرس الخيال، وصراعها لا يأتي من جهة المفاهيم الخالدة للنفس البشرية فقط، ولا فرضيات العواطف ونوازع الشر، بل من الصراع مع الشيطان الجديد الذي جاء غازياً مستثمراً شريراً إلى درجة التنكر لرمز الأمومة والمربي، ومكتسحاً عالم الأخلاق الذي كرسه المجتمع السوري.. هادماً بساطة القرية بتوحش تجارتي الدعارة والمخدرات، ومن دون هذا المفهوم لا يأتي الفيلم بجديد، لكنه من خلال هذا المشهد الجديد ينطلق «الحكيم» إلى مبرر إنتاجه، وتتحرك كاميرا الخطيب لكشف زوايا مفاجئة على جغرافية قرية منبسطة.. إثر هجوم الشر على عالم الحكيم الجديد.

ولم تعد قرية جبور النقية بسيطة بعد عاصفة التلوث، ولا رمزها «الحكيم» دلالةً أو مجازاً سردياً لمكان محصور.. بل إن الفكرة المبنية على فرضية واضحة، جعلت النتيجة مخبرية وأشد وضوحاً وأوسع جغرافية وأكثر استهجاناً.

قصة القرية البسيطة لا تنتهي كما بدأت، عند عزلة وطيبة الشخصيات وسلوكها اليومي، بل تجعلها التطورات تتماسك وتتحد وتتصدى لعدوها مدركة بالتجربة قيمتها الجماعية.

وقد اختار الفيلم السرد الأفقي حتى منتصفه، راصداً علاقة الحكيم بأهل قريته دون مفاجآت درامية، وكرس أحداثه الأولى، قبل مرحلة التغيير الاجتماعي لفرش شخصيات القرية وعلاقة الحكيم معها: فهو الطبيب البشري والبيطري والتوليد والنفسي مجاناً وأيضاً المرشد التربوي والرمز الخلقي للمجتمع قبل اجتياح قوى الفساد وتجار الحرب.

سيبرز الفيلم اختيار فناننا الكبير دريد لحام رمزاً أخلاقياً مكرساً.. الذي نذر نفسه لخدمة مجتمعه، بينما هو يعاني حزناً عميقاً بعد فقدان ابنته في تفجيرات الحرب، وسيتوقف هنا لولا دخول عنصري المعادلة الجديدة.

عنصر الجمال في زيارة حفيدته لجدها، التي أدتها بكل العذوبة الفنانة الجميلة ليا مباردي، وعنصر القبح عند دخول تجار الكبتاغون والدعارة إلى يوتوبيا الخير والبساطة، والتي يؤدي دلالتها المرحوم المبدع محمد قنوع، فيختطف الحفيدة ويوظف ابن المرأة الطيبة- صباح جزائري الشق الثنائي لحضور دريد لحام لإخفائها وهو يهمل والدته التي تموت من دون إسعاف في أثناء غيابه.

تسامح أم مصالحات؟

يتبنى الفيلم فكرة أن الخير لا يموت بين الأخيار، وتسارع القرية متحدة لإنقاذ الحفيدة من أيدي الأشرار وتنتصر لضرورة عودة المحبة والخير والتعاون إلى المجتمع، وتتطور إلى التصدي لغزو الشر الذي يكتسح المجتمع بقيمه الفاسدة وقواه الشريرة.. ولعل انتصار الخير والجمال حصيلة فرضيات لا تخلو من الرومانسية واستنهاض الوجدان المجتمعي، لكنها حتمية النمط الأخلاقي المطروح.

أما اللافت فهو خاتمة الفيلم وسلوك البسطاء، التي اختارت التسامح والتسوية إلى حد المصالح مع شخصيات شريرة ومسيئة: تاجر مخدرات ودعارة.

يحاصر أهل القرية سيارة المختطف، ويرضون باستلام الحفيدة منه، من دون الهجوم عليه وإلحاق الأذى به، وبقبول الحكيم بهذا المبدأ في تطورات المجتمع الجديد، يتركونه يمضي من دون محاسبة وبسلام.. فهل تدخلت الفرضية السياسية في وضع النهاية؟

وقد يستفهم المشاهد كثيراً، حول مغزى الخاتمة، أو يرفضها ويستهجنها من قضى الفساد والأشرار على حياته، ولعلها الرؤية الدرامية لسماحة المؤلفة والحكيم والمناسبة للجهة المنتجة.. بما يوازي إقبال البلاد على مرحلة مصالحات ومسامحات قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن