ثقافة وفن

أسامة الروماني.. العودة الأخيرة

| إسماعيل مروة

أربعون عاماً وأكثر أمضاها الفنان الكبير وأحد المؤسسين المسرحيين أسامة الروماني بعيداً عن سورية ودمشق، أبكانا في (غربة) وهو يعرض حياة الغريب وأنه رقم، مجرد رقم في بلاد لا تعرفه ولا يعرفها، وترك عدداً من الأولاد، من زوجات عديدات، وكل واحد منهم اسمه أحمد، فأسعد جمهوره وأبهجه في انتمائه.. ودافع عن حبه في (ضيعة تشرين) وكان المهر المقدّم لزينة الكرم، وما بين هوية تتحول إلى رقم، ومهر أغلى ما يكون هو الكرم والأرض أعطى أسامة الروماني مع دريد لحام، وضمن فرقته مثالاً مبدعاً للإنسان وانتمائه وحياته.. ومن قبل كانت له جولات في المسرح القومي، ومع المسرح العالمي، وكان مع مؤسسي المسرح في سورية وواحداً منهم، حين كان المسرح حياة لهم ولهوايتهم.. وفي (حد السيف) كان الأمير الأندلسي العاشق والفارس، وتحت إدارة أخيه الفنان والمخرج هاني الروماني، وفي (حمام القيشاني) قدم الشخصية السياسية الإشكالية بإدارة المخرج هاني الروماني، وأزعم أن علاقته بهاني الروماني الأسرية هي التي جعلته يشارك في هذين العملين، فكسب الجمهور ظهوره في عملين من أهم الأعمال السورية التاريخية، من التاريخ البعيد والتاريخ القريب.

وغاب أسامة الروماني طويلاً، ليس من حق واحد أن يحاسبه، فقد كان يعمل للفن والطفولة، وعمل على التأسيس لمشروعات فنية مهمة، وقدم خبرته وتجربه وهو الحاضر للمسرح العالمي على خشباته، وفي بلدانه..

عاد أسامة الروماني منذ أعوام إلى سورية، عاد دون أن يطلب أحد منه العودة، ودون أن يطلب أحد منه المغادرة، عاد لأسباب لا يعرفها سواه، لم يقلها لأنها غير ظاهرة وغير واضحة، وغير مرئية.. الحنين إلى الأرض والجذور والتاريخ والناس، وربما الحنين إلى التراب الذي جبل الإنسان فيه ومنه، هذا الحنين لا تفسير له، ويعجز عن التعبير عنه كل الناس، سواء كانوا من الرافضين للحنين أو المؤيدين له، وحتى ذلك الذي يرتكب فعل الحنين والحب لو سألته عن سببه فإنه لن يجد له تفسيراً، وحدهم الملهمون الذين يملكون القدرة على تحديد الخواتيم وقراءتها، والسير نحوها دون القدرة على تفسير ذلك، فبينما يكون واحدهم يحثّ الخطا تجاه القادم والمجهول ويخبط الأرض بقدميه، يتوقف فجأة عن هذه الحركة المتجبرة والحيوية بكل ما تحمله، ويبقى بقدرته غير المتهالكة، ويقرر بإلهامه أن يضع حداً ونهاية للفوران لا للحياة، وتلتمع عيناه بدمعة تترقرق دون أن تنزل، تختزن بذاتها حزن الكون وآلامه العديدة، ليبدأ مرحلة طواف غير ممنهج على كل ذرة من تراب وحياة وحب.. ينبعث منه الزهد مع الامتلاء عقلاً وروحاً ومادة، لأنه قرأ الحياة قراءة ممتلك لا قراءة محتاج، قراءة مستمتع لا قراءة جائع، والأمثلة أمامنا كثيرة جداً.

أكثر من أربعين عاماً غابها الفنان الكبير أسامة الروماني، ولولا السينما والمسرح تحديداً لنسيه الناس، وكثير من الناس لم يعرفوا أين هذا الفنان! هل هو حي أم لا؟! كان يسعى وراء الحياة، ومن حق كل واحد أن يفعل، وحين قرر قصّ أجنحة الرحيل في العام الفائت، والعودة والاستقرار في سورية ودمشق استهجن كثيرون، وابتهج قليلون، عاد صديقه الكبير دريد لحام ليعبر عن فرحه ويبدأ شراكته معه في الفن والحياة وكان (على قيد الحب) وكانت الدراما السورية بانتظاره، لأنها تحتاج ذلك الشخص المتقدم في العمر، الفنان الحقيقي، القادر على أن يأخذ دور الأب والجد بكل تجلياته ويملك نجومية لا تقل عن نجومية المسيطرين على الساحة، ويملك خبرة ينقلها إلى الممثلين الجدد، لذلك رأينا أسامة الروماني في أعمال عديدة احتاجته أكثر من احتياجه لها، وهو في ذروة العطاء يغادر الفنان الكبير أسامة الروماني، وكأنه يقول: أعلمتم لماذا ألقيت عصا الترحال؟ إنه الحب للأرض، والحنين للحبيب الأول.. في أمان الله أيها المبدع الجميل في كل تجلياتك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن