ثقافة وفن

تفوّقوا شعرياً ورحلوا شباباً … الشعر استنزف مشاعرهم واستهلك طاقاتهم وتغذّى على صحتهم

| مصعب أيوب

شعراء كثر كانت لهم قصائد وأبيات شعرية عدة مما تتلمذنا عليها في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي وحتى الثانوي ربما اختلفوا في طرق الكتابة وأشكالها أو اللهجة، وكذلك في تفضيلاتهم للشعر الموزون أو الحر وقصيدة النثر، وفي نظرتهم للحياة، وحتى في عروقهم ودياناتهم وانتماءاتهم لكن القاسم المشترك الذي جمعهم هو أنهم ماتوا في ريعان الشباب و لم يتجاوزوا الأربعين من عمرهم وربما أقل، وعلى الرغم من موتهم المبكر إلا أن حضورهم كان لافتاً للنظر ونحتاج في مواقف كثيرة لترديد أشعارهم وقصائدهم، ففي وقفة تأملية استحضرني موت الكثير من الشعراء في عمر الشباب ونستذكر معكم اليوم بعضاً منهم.

رغبة في التجديد

نتيجة ارتياد المجالس الأدبية والمنتديات الفكرية وانضمامه للنادي الأدبي أخذت مواهبه الأدبية تبرز في قصائده ومحاضراته التي كانت تنم عن رغبة في التجديد وتجاوز للمألوف، الشاعر أبو القاسم الشابي ابن تونس الخضراء الذي نادى بتحرير الشعر العربي من كل الرواسب القديمة، ودعا للاطلاع على تجارب أعلام الغرب في الفكر والخيال، ورغم علمه بإصابته بمرض قلبي خطير منذ ولادته، وهو ضيق الأذينة القلبية الذي يؤدّي إلى مشكلة في دوران دمه الرئوي، إلا أنه أقبل على الحياة في حدود طاقته، ولكن حالته الصحية ازدادت سوءاً مع مرور السنين وضعفت بنيته الجسدية، فطلب الأطباء من الشابي الاقتصاد في المجهود، والاعتدال في حياته البدنية والفكرية، ونصحوه بعدم الزواج لكنه تزوّج.

فغادر الحياة وهو لم يبلغ الـ26 عاماً من العمر وذلك في 09/10/1934، وقد قيل فيه إنه شاعر وجداني و برغم صغر سنه إلا أنه نجيب و مكثر يمتاز شعره بالرومانسية، فهو صاحب لفظة سهلة قريبة من القلوب وعبارة بلاغية رائعة يصوغها بأسلوب أو قالب شعري جميل.

ولعل أجمل ما حفظنا من طفولتنا عن الشاعر قصيدته المشهورة التي يقول فيها:

إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
ومن لم يعانقه شوق الحياة
تبخر في جوها واندثر
فويل لمن لم تشقه الحياة
من صفعة العدم المنتصر

شاعر فذ

هناك شعراء كثر لم يعمروا طويلاً، فالشاعر العراقي بدر شاكر السياب مات ولم يتجاوز عمره 38 عاماً، وهو يتصدر طليعة مؤسسي الشعر الحر في الوطن العربي بسبب الاطلاع والوقوف على تجارب الشعراء الغربيّين وتعد قصيدته «هل كان حباً» أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر، وقد بقيت اللغة العربيّة الفصحى هي الأساس في نصوصه وحافظ على التراث العربي ولم ينحرف عنه، فهو شاعر فذ استطاع أن يجعل القصيدة العربيّة تلحق بركب الشعر العالمي، ورغم معاناته من المرض والغربة إلا انه استمر في كتابة الشعر للعراق متغزلاً بدجلة والفرات وحتى بشمس العراق، فكان مفرط الحساسية وينظر إلى الوجود من خلال غربته النفسية.

قريحة السياب وموهبته الشعرية قد تفجرتا منذ الصغر في قريته جيكور التابعة لمحافظة البصرة حيث لم يتجاوز الثانية عشرة، كما عمل في كتابة مقالات في جريدة الحرية، وقد عرف السياب أكثر ما عرف بقصيدة «أنشودة المطر».

ظروف بدر المادية لم تكن في أفضل حال واشتغل موظفاً في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، في سنواته الأخيرة كانت أعراض الشلل بادية عليه إذ أصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في عواصم عربية وأجنبية عدة أثبت أن لديه مرضاً فسادياً في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ مشاكل مادية، ومن ثم كانت الصدمة بوفاة جدته التي ربّته بعد أمه وهو في عمر الثامنة عشرة، فخرج السياب إلى ميدان الحياة والشعر وهو يحمل علامة نفسية فارقة ألا وهي احتياجه للمرأة.

ورحل السياب في 24/12/1964 لتبقى سيرته شاخصة للأجيال بما تحمله في طياتها من أدب زاخر لأنه نقش حروف شعره في القلوب ليخلده التاريخ.

فشل كلوي

الشاعر السوري رياض صالح الحسين عاش في صمت وسكون وكذلك فعل حين رحل من دون أن يسمع به كثيرون، فقد غادر عالمنا قبل أن يتم الثلاثين من عمره، لكنه أتمّ أربع مجموعات شعرية تكفينا لنقرّ بأنه صاغ نهجاً جديداً في الشعر الحر ونصوص النثر.

كان والده موظفاً واضطر للعمل مبكراً لجني المال وتدبير النفقات فعمل بشركة النسيج بالتزامن مع براعته في كتابة قصيدة النثر فمجموعته الشعرية الأولى صدرت في العام 1979 عن وزارة الثقافة السورية بعنوان «خراب الدورة الدموية» التي تظهر لنا بساطة ووضوح شعره حين يقول:

كئيباً ومنفتحاً كالبحر، أقف لأحدِّثكم عن البحر

مستاءً وحزيناً من الدنيا، أقف لأحدِّثكم عن الدنيا

متماسكاً وصلباً ومستمرّاً كالنهر، أقف لأحدِّثكم عن النهر».

تميزت نصوصه بالقِيَم الإنسانية التي لن تزول إلا بزوال الدنيا رغم البساطة الواضحة في لغته الشعرية، وغيرها من أدواته الفنية، تعرض رياض لأزمة عاطفية قاسية عندما قطعت حبيبته علاقتها معه ما جعله ينعزل عن الناس ويكتفي بالسهر وكتابة الشعر وتدخين السجائر الأمر الذي أدى لانهياره بالكامل صحياً وذهنياً، وعلى إثر سوء حالته الصحية جرى نقله إلى مستشفى المواساة في دمشق، ليتوفى خلال وجوده فيها بصورة مفاجئة ومفجعة في 21 تشرين الثاني من العام 1982 بعد تعرضه لفشل كلوي، وهو في الثامنة والعشرين من عمره تاركاً أثراً كبيراً، في عالم الشعر السوري.

سالماً منعماً وغانماً مكرماً

إبراهيم طوقان شاعر فلسطيني مولود في 1905 في نابلس بفلسطين، هزيل الجسم ضعيف منذ صغره، وهو أحد أهم الشعراء المنادين بالقومية العربية ومقاومة الاستعمار الإنكليزي في القرن العشرين حين كانت فلسطين واقعة تحت الانتداب البريطاني.

تلقى طوقان دراسته الابتدائية في المدرسة الرشيدية بنابلس ثم التحق بمدرسة المطران الثانوية بالقدس 1919، عمل في التعليم بمدرسة النجاح الوطنية في مدينة نابلس.

1936 تسلَّم القسم العربي في إذاعة «هنا القدس»، كما أنه عمل مدرساً في دار المعلمين العالية في العراق وعاد إلى وطنه مريضاً لتوافيه المنية في 2-5-1941 من دون أن يرى موطنه سالماً منعماً وغانماً مكرماً كما كان يتمنى في قصيدته «موطني».

لا يختلف اثنان في أن طوقان كان هو رائد الشعر العربي الفلسطيني في القرن الماضي، ولا سيما أن قصائده كانت تلوح في الآفاق عبر البلاد ويغنيها المشاهير.

شهدت حياة طوقان معارك أدبية وسياسية في الوقت الذي اتسم فيه أسلوبه الشاعر بالأصالة والمحافظة إلى جانب التجديد، ففي قصائده حافظ على ترتيب الأبيات، والتزم بالعمود الشعري القديم.

كرس طوقان معظم طاقته الشعرية لقضية وطنه حتى أن تلاميذه كانوا يحفظون القصائد والأناشيد التي ينظمها فيلهب بها حماسهم ويبعث الأمل في نفوسهم.

يعتبر البعض أن صناعة الشعر تتطلب مواصفات خاصة، لأنه يتعلق بدواخل الشاعر وهذا يحمّله مزيداً من الإحساس بالعبء والحزن والألم، ويستدعي تنشيطاً للخيال وقوى الإبداع، واستثارة هذه الجوانب لدى الشاعر تحيله كائناً هشاً، صاحب مزاج متقلب وصعب للغاية، في حين أن الفيلسوف الألماني نيتشه يقول «النوابغ يموتون في شبابهم، لأنهم طيّبون أكثر مما تستطيع الأرض تحمُّلَه».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن