«إن للاستخبارات دوراً أساسياً في مجمل النجاحات الدبلوماسية التي حققتها تركيا على صعيد السياسة الخارجية»، كلام قاله رئيس الإدارة التركية رجب طيب أردوغان عام 2022، ولم يكن حينها إلا من باب الإشارة إلى إنجازات أنقرة السياسية والإستخباراتية إقليمياً ودولياً، ليتحول مع انتصار أردوغان في الانتخابات الرئاسية إلى ترجمة على أرض الواقع من خلال تعيين رئيس الاستخبارات هاكان فيدان بمنصب وزير الخارجية، ليحمل ذلك الكثير من الدلالات إزاء مستقبل السياسية الخارجية التركية، سواء على الصعيد الدولي أو على صعيد التعامل مع جيرانها، سورية والعراق وإيران وخاصة لما لفيدان من دور في الملف السوري.
في سلسلة تعيينات الحكومة التركية ثمة مؤشر يرجح أن يسلك أردوغان في ولايته الرئاسية الثالثة والأخيرة، نهجاً مغايراً عما سلكه سابقاً، بعيداً عن المواجهة والتدخلات في شؤون الدول الخارجية من سورية إلى العراق واليمن وليبيا ومصر والبلقان وليس انتهاء بالحرب في أوكرانيا، نهجاً يجنح إلى فتح صفحات جديدة في علاقات بلاده الدبلوماسية مع محيطه القريب والعربي عموماً، مع الاستمرار بتقوية علاقة بلاده مع كل من روسيا وإيران، دون أن يبتعد كثيراً عن الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما عكسته تشكيلته الحكومية الجديدة، وأكده موقع «ميدا ايست آي» عندما نقل عن مصادر تركية متعددة أن أهداف أردوغان المستقبلية تتمثل بتنويع حلفاء البلاد، ومنع الأزمات الدبلوماسية الكبيرة، والإسراع بجهود المصالحة مع سورية ومصر ودول الخليج، والتمسك بالاستقلال.
وضوح الرؤية المستقبلية لسياسة أردوغان تجاه سورية، واستمراره بالعمل للتقارب مع دمشق، برز من خلال جملة من المعطيات، أولاً، تعيين فيدان على رأس الدبلوماسية التركية وهو المطلع على أدق التفاصيل في الملف السوري، وعراب اللقاءات الأمنية التي جرت سابقاً بين دمشق وأنقرة، وثانياً حفاظ الأخيرة على الوتيرة ذاتها بما يخص اجتماعات اللجنة «الرباعية»، حيث كشفت مصادر مطلعة أن الاجتماع سينعقد على مستوى نواب وزراء خارجية سورية وروسيا وإيران وتركيا، على هامش اجتماع مسار «أستانا» المقرر انعقاده في العشرين والحادي والعشرين من حزيران الجاري، وثالثاً، ردة فعل ما تسمى المعارضات السورية، و«تكويعتها» بما يخص موقفها من الحكومة السورية، وقولها في ختام اجتماعها قبل يومين في جنيف: «اتفقت الأطراف المشكّلة للهيئة العليا للمعارضة السورية على بيان موحد اعتبرت فيه أن التطورات الدولية والإقليمية والسورية الحالية، والحراك النشط الخاص بالمسألة السورية تؤمن ظرفاً مناسباً لاستئناف المفاوضات المباشرة مع دمشق»، تطورات أغبى من أن تكون تلك المعارضات قادرة على قراءتها بشكل جيد، بل إن القصة قد تكون أوامر وصلتها من سيدها التركي، فعملت على إخراجها بصيغة تطورات ومتغيرات.
الحديث عن تغير مرتقب في سياسة أنقرة، لا يعني أن الأمور باتت في خواتيمها، أو أن الحل يقف خلف الأبواب، فما زال موضوع الاحتلال التركي لأراض سورية ودعم أنقرة التنظيمات الإرهابية، العقدة الكأداء في ملف التقارب السوري التركي، وخاصة أن دمشق تؤكد دائماً أن عبور أنقرة إلى مرحلة جديدة من العلاقات معها يجب أن يتم من باب الإعلان صراحة عن إنهاء احتلالها للأراضي السورية ووقف دعم التنظيمات الإرهابية، الأمر الذي جدد تأكيده وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد خلال المؤتمر الصحفي مع نظيره العراقي فؤاد حسين الأحد الماضي بخصوص الاعتداءات التركية على الأراضي العراقية والسورية بالقول: «ندين هذه الاعتداءات، ونطالب بوقفها وبوقف الدعم الذي يقدم للتنظيمات الإرهابية في بعض المناطق في سورية، وخاصة لـ«جبهة النصرة» وتنظيم داعش.
قد تطول اللقاءات على طاولة «الرباعية» في ضوء التعنت التركي والتشبث بالمواقف الرافضة للثوابت السورية، وخصوصاً إذا ما مضي فيدان على نهج سلفه مولود تشاووش أوغلو الذي أعلن قبل مغادرته القرار السياسي، رفض بلاده للانسحاب حين قال في نيسان الماضي إن «انسحابنا من شمال سورية يعني توقف عملياتنا العسكرية ضد الإرهاب واقتراب الإرهابيين من حدودنا وهذا يشكل تهديدا لأمننا القومي».
إلا أن «قد» السابقة لا تجد عملها إذا ما نجح الجانب الروسي في وساطته، وعمل على لقاء الجانبين في منتصف الطريق، وهو الحريص كل الحرص على إنهاء ملف التقارب السوري التركي بشكل إيجابي، بما يعيد كامل سيادة الدولة السورية على ترابها الوطني، وينهي جميع أشكال التنظيمات الإرهابية، وهذا الأمر ليس بالمستبعد على أردوغان، لجهة مقدرته على ترحيل أو القضاء أو تدوير جميع التنظيمات والمسلحين الرافضين للانسحاب من الأراضي السورية، وهو من عمل على إقصاء تنظيم الإخوان المسلمين وإبعادهم عن الساحة السياسية والعملية التركية، كبادرة حسن نية تجاه مصر قبيل إعادة العلاقات معها، ولنا في قيام تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي المقرب من أنقرة بإزاحة جميع معارضيه من التنظيمات الأخرى وخاصة «الأجنبية» منها دليل على إمكانية حصول الأمر في الوضع السوري.