الأولى

دبلوماسية «الفرشاة والريشة» العُمانية

| عبد المنعم علي عيسى

تشبه السياسات التي تنتهجها سلطنة عُمان منذ وقت ليس بالقصير العمل الذي يقوم به «باحثو الآثار» الذين يستخدمون، أكثر ما يستخدمون، الفرشاة والريشة في سياق بحثهم عن التحف والتماثيل التي قد يؤدي استخدام المعول أو المطرقة للكشف عنها إلى تهتكات ضارة بها الأمر الذي يقلل من قيمتها، هذا إن لم يجعلها فاقدة للقيمة أصلاً إذا ما كان فعل التهتك كبيراً بفعل ضربة معول من هنا أو ضربة مطرقة من هناك.

في غضون «الانفجارات» التي راحت تشهدها المنطقة بدءاً من أواخر شتاء العام 2010، كان من الواضح أن ثمة توجهات جديدة للعديد من الدول التي لم تمرها رياح «الربيع العربي» للعب أدوار سياسية لم تكن تعرف بها، ولربما كان الفعل قد اكتسب مشروعيته من عاملين اثنين أولهما اهتزاز البنيان الداخلي لدول كانت تلعب دور المرتكزات الأساسية في أمن واستقرار المنطقة، وثانيهما هو الانزياح الحاصل، بفعل هذا العامل الأخير وكذا بفعل عوامل أخرى، في مركز الثقل العربي الذي حطت رياحه بعيداً في شبه الجزيرة العربية، لكن مع بروز ثلاثة أنماط منها كان أولها سعودياً والثاني قطرياً أما الثالث فعُمانياً، وإذا ما كان الأول تقليدياً، فإن الآخرين كانا مستجدين لكن أيضا مع تباين كبير في طبيعتيهما، حيث سيتميز الدور الذي اضطلعت به سلطنة عُمان بالكثير من المرونة والواقعية، الصفتان اللتان أكسبتا دبلوماسيتها العديد من الميزات التي تؤهلها للعب دور إقليمي وازن يبز نظيراتها عند الاثنين اللذين يضمهما «مجلس التعاون الخليجي» في إطار واحد وإن كان التناغم في هذا الأخير قد تقلص بفعل اختلاف الرؤى وآليات الحركة.

انتهجت مسقط منذ بدء حرب الخليج الأولى، الحرب العراقية – الإيرانية عام 1980، سياسة كانت أشبه بدور «الثلاجة» التي يجهد القيمون عليها في ترقب مستويات الغاز المسؤول دائماً عن كفاءة التبريد فيها، والفعل الذي لم يرق لكثيرين في البدايات، تحديداً عند الخليجيين، راحت النظرة عند هؤلاء تتبدل شيئاً فشيئاً تجاهه خصوصاً إذا ما قيست الأمور بالنتائج التي غالباً ما كانت هذه الأخيرة تراكم سهامها في الجعاب العُمانية، ومع انصقال التجربة وترسخها، راح الدور يكتسب ميزات أكثر من سابقاتها حتى ليمكن القول إن جل التحولات السياسية التي حصلت على مدى نحو عقد كانت مسقط طرفاً فيها، بدءاً من المفاوضات الرامية لإنهاء حرب اليمن الدائرة منذ ثماني سنوات، ومروراً باتفاق «فيينا» 2015 الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، ثم وصولاً إلى الاتفاق السعودي – الإيراني في بكين الـ 10 من آذار المنصرم.

لربما كانت الأسباب التي رمت بثقلها وراء نجاح الدبلوماسية العُمانية عديدة لكن الأبرز منها يكمن في القراءة الدقيقة لاتجاه الرياح السائدة في المنطقة والعالم، ومن المؤكد أن مسقط كانت تنطلق في كل تحركاتها لإنجاز ما سبق من سياقات تندرج في إطار السياسة الأميركية الجاهدة للانسحاب التدريجي من المنطقة تفرغاً لملفي الصين وروسيا اللذين ستحسم نتائجهما شكل النظام الدولي القادم، لكن عوامل النجاح هنا تقوم أيضاً على تفصيلات دقيقة كانت تراعي طبيعة التوازنات القائمة راهناً، من نوع الإقرار بأن الولايات المتحدة لا تزال صاحبة السطوة العالمية التي لا يجوز «إزعاجها»، فاحتضان مسقط للمفاوضات التي سبقت التوقيع على اتفاق «فيينا» كان يلبي مصالح الأميركيين الذين راحوا يرقبون انزياح مركز الثقل العالمي نحو المحيطين الهندي والهادئ، ثم راحوا يتحضرون للانتقال إلى هناك، ولا يمثل هنا الفعل الذي قام به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب شهر أيار 2018، عندما قام بإلغاء اتفاق فيينا، تحولاً استراتيجياً في السياسة الأميركية بقدر ما كان الفعل يغوص في أبعاد انتخابية ضيقة، وإن كان الأمر يمثل ظاهرة خطيرة في دولة عظمى من حيث إنها ترمز لتغليب «الذاتي» على «الموضوعي» في رسم السياسات، كما أن الاتفاق السعودي – الإيراني الحاصل في الصين شهر آذار الماضي لم يكن ليثير الولايات المتحدة من حيث النتائج التي آل إليها، وجل «إثارته» كانت تنبع من أنه حصل على أرض «الخصم» وتلك لا تمثل «محرماً» في سلوكيات الدول إلا في حالات نادرة من نوع وجود صراع عسكري سوف تتوقف على نتائجه عمليات رسم موازين قوى جديدة.

تشير تقارير إلى أن الدبلوماسية العُمانية تلعب في هذه الآونة دوراً مكوكياً يهدف إلى التوصل لـ«صفقة نووية» ما بين واشنطن وطهران لربما تكون مغايرة لتلك التي حدثت صيف العام 2015 نظراً لاختلاف الظروف والمعطيات بين التاريخين، وتشير تلك التقارير أيضاً إلى أن الدبلوماسية العُمانية، تلعب الدور عينه ما بين واشنطن ودمشق على الرغم من الضجيج الإعلامي الذي تمارسه الأولى تجاه الأخيرة، وكلا الأمرين يبدو أنه ينطلق من القراءة السابقة التي تقول بوجود قرار أميركي بالانسحاب من المنطقة، الأمر الذي يضع واشنطن في وضعية القبول بإبرام اتفاقات لا يمكن القبول بها فيما لو كانت هناك وضعية معاكسة، وفي ذاك من المؤكد أن مسقط لا تسير تحركاتها على عقارب الساعة الأميركية، بل على العكس من ذلك فإنها تنطلق من قراءة اتجاهات الرياح، والعمل بجهد لا يعرف الملل على تفكيك الألغام التي زرعتها مختلف الأطراف في طرقات عدة.

إذا ما نجحت مسقط في تحقيق اختراق وازن في الجدارات القائمة ما بين واشنطن وطهران، ونظير له ما بين دمشق وواشنطن، فإن ذلك قد يعيد رسم الخريطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط بعيداً عن نظرية «الشرق الأوسط الجديد» التي أطلقت عملياً على لسان مستشارة الأمن القومي الأميركي كونداليزا رايس مع الساعات الأولى لانطلاق العدوان الإسرائيلي على لبنان شهر تموز 2006.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن