تتسارع وتيرة التطورات المعقدة في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية، بعد سلسة من الخطوات الإيجابية التي شهدها مسار العلاقات السورية العربية، وفي ظل المساعي المبذولة من كل من روسيا الاتحادية والجمهورية الإسلامية الإيرانية لإنجاز مصالحة سورية تركية تسهم في حل الأزمة السورية.
أبرز التطورات المعقدة التي تشهدها الجغرافية الشمالية الشرقية تتجلى في سعي الولايات المتحدة الأميركية لتكريس وجودها العسكري غير الشرعي في هذه المنطقة، وفق ما عبر عنه منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي، الذي قال إن الولايات المتحدة «ستحافظ على وجودها العسكري في سورية، وهي مستعدة لحمايته»، إذ إن هذا التصريح يحمل العديد من الدلالات أبرزها:
أولاً- الولايات المتحدة الأميركية تهيئ لمرحلة جديدة لإبقاء قواتها في سورية بذرائع جديدة بعد تراجع وجود تنظيم داعش الإرهابي في المنطقة؛ وهي الذريعة التي كانت تستند إليها الإدارات الأميركية لتبرير وجودها في المنطقة بشكل فردي أو عبر تشكيل ما سمي التحالف الدولي.
ثانياً- سعي الولايات المتحدة الأميركية لإفراغ أي مصالحة محتملة بين سورية وتركيا من مفاعيلها الإيجابية، أو من خلال دفع النظام التركي لعدم اتخاذ قرار المصالحة مع سورية عبر تغييرات ميدانية عسكرية للتنظيمات المسلحة تخفف من تخوفات تركيا المزعومة حول تهديد أمنها القومي من وجود قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني على حدودها الجنوبية.
ثالثاً- تخوف القوات الأميركية من تزايد العمليات الفدائية المقاومة ضد قواتها في هذه المنطقة بدعم روسي إيراني، حيث نشرت صحيفة «واشنطن بوست»، ما زعمت أنها تقارير استخباراتية سرية كشفت عن أن إيران وحلفاءها يعملون على تأسيس وتدريب قوات على استخدام متفجرات خارقة للدروع أكثر تدميراً، تهدف تحديداً إلى استهداف المركبات العسكرية الأميركية وقتل المقاتلين الأميركيين، كما كشفت الوثائق الاستخباراتية المسربة عن «مساعٍ جديدة واسعة النطاق» من موسكو وطهران ودمشق لطرد الولايات المتحدة من سورية.
رابعاً- الرغبة الأميركية في استقطاب العشائر العربية إلى جانبها وتخفيض تأثير الدور الخليجي وخاصة السعودي من الضغط على هذه العشائر لسحب عناصرها مما يسمى «قوات سورية الديمقراطية – قسد».
هذه الأبعاد المتعددة قد تكون عاملاً أساسياً بشكل مفرد أو جمعي لمسارعة الإدارة الأميركية في إحداث تغيير ديموغرافي وهيكلي ببنى التنظيمات المسلحة في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية، وهو ما يوحي بمخطط لربط هذه القوات ابتداء من منطقة التنف وما يسمى المنطقة 55، وصولاً إلى مناطق مختلفة من إدلب التي فيها تنظيمات ترفض سيطرة «هيئة تحرير الشام» عليها وهي غير مقتنعة بالتوجهات التركية بالمصالحة مع سورية، مروراً بمناطق سيطرة ميليشيات «قسد»، وهو ما كانت قد كشفته موسكو مراراً وتكراراً وفي مناسبات عدة عن خطورة ما تنتهجه واشنطن من خلال تشكيل قوات جديدة أو إعادة هيكلية التنظيمات القديمة وتطعيمها بقوات من العشائر العربية وتشكيل غرفة عمليات موحدة تحت الإشراف الأميركي.
تصب واشنطن جهودها في الآونة الأخيرة لإحياء وتشكيل تنظيمات مسلحة من المكون العربي تحت مسمى «جيش سورية الحرّة» في الرقة ودير الزور والحسكة، وهو مشروع قديم جديد تسعى واشنطن لإنجاحه بهذا التوقيت، ساعية من خلال ذلك إلى تحصين مواقع سيطرتها على المناطق النفطية وحمايتها بقوات تابعة لها ولا تحمل جنسيتها، إضافة لعرقلة أي مسار سياسي لحل الأزمة السورية لا يتوافق مع مصالح واشنطن في سورية والإقليم.
ولتحقيق ذلك تقوم الولايات المتحدة الأميركية من خلال خبراء عسكريين تابعين لها وللقوات البريطانية في تدريب هذه التنظيمات في معسكرات متعددة بما فيها منطقة التنف، وتزويدها بأسلحة جديدة ونوعية، وهو ما كشفته صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، نهاية الأسبوع الماضي، من أن الولايات المتحدة أرسلت نظام راجمات «هيماراس»، الذي تنتجه شركة «لوكهيد مارتن»، إلى المناطق الخاضعة لسيطرة «قسد»، في كل من دير الزور، والحسكة، والرقة، بهدف تعزيز قواعدها في هذه المدن الثلاث، بعد استهداف مواقعها العسكرية في المنطقة من قِبل مسلحين مدعومين من إيران وفق وصف الصحيفة.
وهذا بالتزامن مع التعقيدات والألغام التي تهدف واشنطن لزرعها وخلقها في الجغرافية الشمالية الشرقية من سورية، كان لافتاً دعوة ما يسمى «هيئة التفاوض السورية» لاستئناف المباحثات المباشرة مع دمشق برعاية أممية، على أثر اجتماع معظم مكوناتها على مدى يومين في جنيف السويسرية، إذ إن حصول هذا الاجتماع يؤكد الحقائق التالية:
أولاً- ممارسة بعض العواصم الغربية والمبعوث الدولي ضغوطاً على هذا المكون المعارض لإعادة هيكلية بنيته وتوجهاته وأهدافه خلال المرحلة المقبلة بما يتلاءم مع التطورات الإقليمية والدولية، ومما يؤكد ذلك هو رفض منصة القاهرة، أحد المكونات التي تضمها الهيئة إلى جانب الائتلاف وهيئة التنسيق ومنصة موسكو، للمشاركة في هذا الاجتماع، فضلاً عن أن الاجتماع عقد بعد 4 سنوات من آخر اجتماع، وفي ظل عودة منصة موسكو التي علقت مشاركتها منذ عام 2019.
ثانياً- سعي بعض قوى هذه الهيئة أو الدول الغربية، إلى إضعاف نفوذ وتأثير الإخوان المسلمين الذين هيمنوا على هذه الهيئة بدعم تركي خلال السنوات السابقة، بهدف سحب ورقة المعارضة من الاحتكار التركي وسط مخاوف من تقارب سوري تركي، وهو ما يفسر مهاجمة العديد من قيادات الإخوان لهذا الاجتماع حتى قبل عقده.
ثالثاً- الخشية الغربية وفي مقدمتها الأميركية من حصول تقدم في المسار السياسي السوري لحل الأزمة، وفق جهود مسار أستانا أو المبادرة العربية أو تلاقيهما، بعيداً عن أي دور غربي ممثلاً في الأمم المتحدة.
بالعموم، هذه التطورات سواء من حيث الجهود الأميركية لإعادة خلط الأوراق على المستوى التكنيك الميداني العسكري، أو مسارعة ما يسمى المعارضة بمبادرة ذاتية أو نتيجة ضغوط بهدف إعادة هيكلية بنيتها وإثبات وجودها مستفيدة من التطورات الإقليمية المتسارعة، قد تكون سيفاً ذا وجهين: الأول إيجابي يوحي بأن الأزمة السورية باتت في ربع الساعة الأخيرة وهو ما يدفع الجميع لرمي أوراق القوة كاملة، والثاني سلبي يحمل مخاوف من إعادة إنتاج الإرهاب بأِشكال جديدة ويتبنى سياسات وعقوبات تزيد من معاناة الشعب السوري.