اقتراحات جريئة لتحريك الاقتصاد السوري «الحلقة الأولى» … زيادة الإنتاج – رفع الأجور – احتواء التضخم – تخفيف المعاناة على المواطنين … توجيه الاستثمار نحو الاقتصاد الإنتاجي وتجميد مشروع «ماروتا سيتي» وإلغاء «باسيليا سيتي»
| بقلم الدكتور نبيل سكر
أربعة مرتكزات، يشرحها ويقدمها الباحث الاقتصادي السوري نبيل سكر كإستراتيجية تهدف إلى تحريك الاقتصاد والتخفيف من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة على المدى القصير، بعد سنوات من الحرب والعقوبات الاقتصادية وانقسام البلاد الذي أدى إلى تدني الوضع الاقتصادي والمعيشي في كل أنحاء البلاد، والتي فاقمها أيضاً الزلزال الأخير.
المرتكزات الأربعة التي اشترط سكر تنفيذها بالوقت ذاته، جاءت على رأسها زيادة الإنتاج لخلق قنوات استثمارية إنتاجية جديدة، مقترحاً الاستفادة من تجربة الدنمارك الناجحة في ثمانينيات القرن الماضي، مؤكداً أن الحكومة الحالية لا تريد الاعتراف بعمق الأزمة، ولا العودة لخطة التعافي الاقتصادي التي وضعتها حكومة سابقة وتم إخفاؤها في الأدراج.
كذلك ركز سكر على الصناعة بشقيها العام والخاص، فقد طالب بإعطاء القطاع العام المزيد من الاستقلالية في القرار، والإفساح للإعلام ومجلس الشعب والمجتمع المدني للتدقيق في أدائه، أما أبرز ما طالب به القطاع الصناعي الخاص فكان وقف احتكاراته وتحالفات مؤسساته الكبيرة مع الأقوياء في السلطة.
الخبير سكر خص صحيفة «الوطن» بإستراتيجيته التي سننشرها على جزأين.
حرب وفساد وزلزال
أدت اثنتا عشرة سنة من الحرب الداخلية والعقوبات الاقتصادية وانقسام البلاد والمؤسسات وتدخل الدول الأجنبية في شؤونها الداخلية، إلى تدني الوضع الاقتصادي والمعيشي في كل أنحاء البلاد، متمثلاً بتدني الإنتاج والدخول وزيادة البطالة وندرة السلع الأساسية والمشتقات النفطية وارتفاع أسعارها، ما أدى بدوره إلى تدني الناتج المحلي الإجمالي إلى أكثر من النصف وإلى زيادة البطالة والفقر وتزايد الفروقات بين الطبقات، فضلاً عن زيادة الفساد والتهريب بالاتجاهين. وقد زاد الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد في شباط من هذا العام (2023) من الأعباء المادية والبشرية على الدولة وزاد من معاناة المجتمع إلى حد كبير.
وقد عجزت الحكومات المتعاقبة خلال الأزمة عن مواجهة تبعاتها المتعددة وعن إعداد إستراتيجية متكاملة للتعامل معها، نظراً لعمق الأزمة وتشعبها من جهة، ولضعف الإدارة والمعرفة ولتدخل المصالح في سياساتها من جهة أخرى. وقد كانت واحدة من الحكومات السابقة قد أعدت في الفترة ما بين 2017 و2020 خطة تعاف اقتصادي وإعادة إعمار وإصلاح، أصدرتها بقانون تم نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 8/3/2020، ولكن الخطة تم إخفاؤها في الأدراج منذ ذلك الحين.
والحكومة اليوم تريد الإصلاح، ولكنها لا تريد العودة إلى الخطة أعلاه، ولا تريد الاعتراف رسمياً بعمق الأزمة، وهي لا تنشر المعلومات الدقيقة حولها حتى لا توقظ مخاوف المواطنين، كما أنها لم تشكل خلية أزمة ولم تعد خريطة طريق لمعالجتها بشكل موضوعي وبمشاركة القطاع الخاص والمصارف والجهاز الإداري للدولة، متبعة بدلاً من ذلك سياسات مالية ونقدية وتجارية تقليدية غير واضحة الأولويات، وكأننا لسنا في أزمة، ولكنها قامت بإجراءات لاحتواء تدهور سوق الصرف ولترميم ما يمكن ترميمه من البنى التحتية ضمن الإمكانيات المالية المتوفرة.
وتتضمن الصفحات أدناه عناوين لإستراتيجية تهدف إلى تحريك الاقتصاد في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وإلى التخفيف من الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة على المدى القصير، تاركين مقترحات حل الأزمة على المدى المتوسط والبعيد إلى ما بعد التوافق السياسي الداخلي وعودة الاستقرار وتوحيد البلاد، وخروج القوات الأجنبية والميليشيات منها، وإلغاء العقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة عليها.
أربعة مرتكزات
تركز الإستراتيجية المقترحة على أربعة مرتكزات رئيسية، أولها زيادة الإنتاج على حساب الاستيراد، وثانيها رفع الدخول والأجور بدلاً من تجميدها، وثالثها احتواء التضخم كأولوية تسبق أولوية تثبيت سعر الصرف، ورابعها تخفيف المعاناة على المواطنين، وتشكل هذه المرتكزات الأربعة مكونات ما يسمى التعافي المبكر، الذي سيسبق عملية إعادة الإعمار وسيستمر معها.
فزيادة الإنتاج تزيد من العرض في السوق، ورفع الدخول والأجور يعزز الطلب على الإنتاج، كما أن احتواء التضخم يخفف من المعاناة من جهة، وسيؤدي إلى تحييد أثر رفع الدخول والأجور على القوة الشرائية للمواطن من جهة أخرى. أما المرتكز الرابع، تخفيف المعاناة، فهو لمواجهة تزايد الفقر والتدهور الصحي للمواطن والسعي لتعزيز التصالح الاجتماعي، ولمنع الزيادة الإنتاجية من أن تتحول إلى ظهور الاحتكارات.
ولكن من المهم أن يتم تنفيذ المرتكزات الأربعة بالوقت نفسه، من دون تأخر أي منها عن المرتكزات الأخرى. ومن المهم أن تبادر الحكومة إلى تحمل مسؤولياتها، بدلاً من الرجوع دائماً إلى الجهات الوصائية، كما العمل على إعادة بناء مؤسساتها التي أرهقتها الحرب والعقوبات.
زيادة الإنتاج
في سعينا لزيادة الإنتاج، وهو المرتكز الرئيسي، علينا إعطاء الأولوية لقطاعي الصناعة والزراعة على حساب قطاعي التجارة والسياحة، مع تأهيل قطاعي التعليم والصحة. وستتيح زيادة الإنتاج المجال لزيادة العمالة التي ستخفف من المعاناة ولتعزيز التصدير الذي سيخفف الضغط على سعر الصرف، وبالنسبة لقطاع الصناعة علينا إعطاء الأولوية لصناعات الطاقة المتجددة والري الحديث، كما لصناعاتنا التقليدية النسيجية والغذائية المعتمدة على المواد الأولية المحلية، وكذلك صناعة الأدوية، كما علينا تعزيز التنافسية وحماية الصناعة من المنافسة الخارجية إلى أن تقف على قدميها من جديد، وتعزيز دور المدن الصناعية الأربع وتوفير حوامل الطاقة لها. فضلاً عن زيادة اعتماد الصناعة على الاقتصاد الرقمي، والسعي للارتقاء التكنولوجي من خلال البحث والتطوير (R&D).
الأمن الغذائي
وبالنسبة لقطاع الزراعة علينا وبالسرعة القصوى السعي لتأمين الأمن الغذائي من خلال كل من تعزيز إنتاج القمح والثروة الحيوانية، وإصلاح الأراضي التي خرجت من الزراعة خلال الأزمة، وتخفيض كلفة الإنتاج، وتوفير مستلزمات الإنتاج من بذور وأدوية وسماد، وتوفير التمويل والطاقة، واعتماد تقنيات الري الحديث. ولا شك أن اعتماد هذه الإجراءات ستمكن من تخفيض الدعم المباشر وغير المباشر الذي تقدمه الحكومة للمزارعين، والذي يحملها أعباء كبيرة.
ولكن لا بد من التذكير أن زيادة الإنتاج في قطاعي الصناعة والزراعة تحتاج إلى النهوض في قطاعات أخرى يعتمد عليها هذان القطاعين، وخاصة قطاع النقل الذي يحتاج بشكل أساسي إلى المشتقات النفطية المنخفضة الكلفة وكذلك القطاع المصرفي الذي سنتعرض له أدناه.
وبالنسبة لزيادة الإنتاج في القطاعات جميعها وفي كل المحافظات، هناك أولوية لتعزيز حلقات الترابط ضمن القطاعات نفسها وفيما بينها، وأولوية لتوفير مستلزمات الإنتاج من المواد الأولية ومن المحروقات والطاقة، وأولوية لتشغيل الطاقات المعطلة على حساب إقامة طاقات جديدة. ولا يجب التقليل من أهمية استغلال الأصول المعطلة (التي ازدادت إلى حد كبير خلال الأزمة)، ويمكننا هنا الاستفادة من تجربة الدنمارك الناجحة في الثمانينيات من القرن الماضي.
وأخيراَ، وفضلاً عن الأولويات أعلاه، فإن زيادة الإنتاج تخلق في الاقتصاد قنوات استثمارية إنتاجية جديدة ستغني عن المضاربة في سوق القطع وسوق العقار وعن الاستثمار في القطاعات الريعية الأخرى.
الصناعة في القطاعين العام والخاص
هناك دور أساسي ومباشر لكل من القطاعين العام والخاص الصناعيين لزيادة الإنتاج وتحريك الاقتصاد، وذلك من خلال رفع مستوى مؤسساتهما الإنتاجية وتخفيض كلفها. لكن القطاعين يعانيان ضعفاً تنظيمياً داخلياً ويعملان دون طاقاتهما الإنتاجية بسبب تدني الكفاءة والإدارة، وبسبب حجم الدمار والعقوبات التي أثرت عليهما. فبالنسبة للقطاع العام الصناعي هناك حاجة للإفراج عن حقيقة أدائه، وإعطائه المزيد من الاستقلالية في القرار، وإفساح المجال لمجلس الشعب والإعلام والمجتمع المدني للتدقيق في أدائه، بهدف زيادة إنتاجه وإنتاجيته وتقليص كل من كلفه واستنزافه للمال العام، إلى أن يتم تخصيصه في وقت لاحق.
أما بالنسبة للقطاع الخاص فهناك حاجة لتوجيهه نحو الاستثمار الإنتاجي بعيداً عن الاستثمار الريعي، والاحتفاظ باستثماراته داخل البلد، ووقف كل من احتكاراته وتحالفات مؤسساته الكبيرة مع الأقوياء في السلطة، وحاجة لرفع أداء مؤسساته الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة من خلال تنظيمها إدارياً واعتمادها على التكنولوجيا الرقمية الحديثة. وهذه مهام تقع على عاتق القطاع الخاص نفسه بالتعاون مع غرف الصناعة، وليس على الحكومة التي اعتاد مطالبتها دائماً بالدعم والمساعدة، متغاضياً عن مسؤوليته هو في تحقيق هذه الأهداف، كما يجب تطبيق قيم الشفافية والمساءلة على نشاطه مثلما نطالب بتطبيقها على نشاط القطاع العام.
سياسات تحفيز الإنتاج
ومن جهة السياسات لتحفيز الإنتاج، على الحكومة تحسين مناخ الاستثمار، بما فيه تقليص البيروقراطية وتخفيض كلفة الأعمال وتوفير مستلزمات الإنتاج وحوامل الطاقة، وأن يكون لتحسين مناخ الاستثمار أولوية تفوق أولوية منح الإعفاءات الضريبية والجمركية السخية التي نص عليها قانون الاستثمار الجديد (القانون رقم 18 لعام 2021) وتعديلاته، وإزالة الرسوم الجمركية على المدخلات ورفعها على الكماليات، وبالوقت نفسه إعادة التوازن للإطار الاقتصادي الكلي، والتصدي لاقتصاد الحرب وأمرائه.
كما على الحكومة تعديل وتفعيل قانون التشاركية، القانون رقم 5 للعام 2016 (استعداداً لمرحلة إعادة الإعمار)، وترميم ما أمكن من البنى التحتية، ورفع حجم ومستوى الحماية الاجتماعية خاصة بالنسبة للطبقات الفقيرة، والاستمرار بالسماح للمصدرين بالاحتفاظ بمبالغ صادراتهم، مع مكافحة التصدير الوهمي والبحث عن أسواق جديدة، وإقامة المناطق التصديرية على الحدود البحرية والبرية بالتشارك مع القطاع الخاص، وزيادة إنفاق الدولة الاستثماري على حساب إنفاقها الجاري مع مكافحة الهدر والفساد في كلا الإنفاقين، والسعي لاستعادة رؤوس الأموال والعقول والخبرات التي هاجرت (من خلال تحسين المناخ السياسي ومناخ الاستثمار)، وتسهيل إجراءات الاستيراد عن طريق المصارف وشركات الصرافة. ومن الضروري التنسيق بين السياسات المالية والتجارية والنقدية، بحيث تتولى الأولى تحفيز الإنتاج والاستثمار، وتتولى السياسة النقدية لجم تبعات السياسات المالية والتجارية التضخمية، وذلك من خلال استخدام سعر الفائدة وغيرها من الأدوات المتوفرة لديها في الوقت الحاضر.
وأخيراً على الحكومة توجيه الجهود والأموال نحو المشاريع الإنتاجية ذات الأولوية، مجمدة مشروع ماروتا سيتي وملغية مشروع باسيليا سيتي الممتد على مساحة 897 هكتاراً ما بين محافظتي دمشق وريف دمشق، كما هناك حاجة لأن تفسح الحكومة المجال للتدفق الحر للمعلومات حول الوضع الاقتصادي والمعيشي الحقيقي، والإفصاح عن سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، حتى يستطيع المواطن والصناعي والتاجر مناقشتها من جهة، والتصرف بمقتضى ما يتم الاتفاق على تفاصيلها.
التوجيه الصحيح للتمويل
وبالنسبة للسياسة المصرفية والمصارف، هناك حاجة أولاً لتوجيه التمويل نحو القطاعات الإنتاجية أعلاه دون القطاعات الريعية، وثانياً إعطاء أولوية لتمويل حوامل الطاقات المتجددة والطاقات الإنتاجية المعطلة، وثالثاً زيادة التمويل في المناطق المهمشة وفي الريف، ورابعاً توجيه القطاع الخاص المصرفي لوضع التمويل التنموي هدفاً قبل هدف الربح، والقطاع العام المصرفي لزيادة كفاءة تشغيله، وخامساً تقليص سياسة سحب السيولة من السوق من خلال رفع القيود على السحب النقدي بالعملة المحلية والعملات الأجنبية، وسادساً تحرير سعر الحوالات القادمة من الخارج، وسابعاً السعي لزيادة التمويل الطويل الأجل من خلال تعديل وتفعيل قانوني التمويل العقاري (القانون رقم 15 لعام 2012) والتأجير التمويلي (القانون رقم 88 لعام 2010)، كما من خلال إقامة صناديق الاستثمار، وثامناً توسيع نشاط مؤسسة ضمان القروض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتاسعاً معالجة الديون المتعثرة لدى المصارف، وعاشراً تعزيز الدفع الإلكتروني، وأحد عشر تحسين إدارة المخاطر في المصارف الخاصة والعامة. ويقع عبء المقترحات أعلاه على كل من الدولة والمصارف نفسها والمصرف المركزي.