ثقافة وفن

كمال خير بك شاعر يرسم معالم النهضة والحداثة في شعره ودراسته الأكاديمية كان حداثياً يرتكز إلى معرفة وأصالة

| إسماعيل مروة

سأل الليل النهار: من أنا؟ قال: أنا في ثياب الانتحار

بين عامي 1935 و1980 كانت حياة واحد من أهم شعراء الحداثة الشعرية العربية، وواحد من أكثر المناضلين ضراوة وقسوة على العدو، وواحد من الشعراء السوريين الذين آمنوا بالكلمة ودورها، وبالنضال الثوري من أجل القضايا التحررية، وواحد من الشعراء المختمرين شعراً ودراسة ونقداً، وقليلون هم الشعراء الذين زاوجوا بين الإبداع والنقد، وكانوا محلقين في كل ميدان، ولم يغلب جانب على آخر.. إنه الشاعر السوري المتفوق والدكتور الناقد، والثوري الاجتماعي، والمناضل العنيد كمال خير بك.. وإن كانت علامات الشعر المقاوم تذكر كمال ناصر وكمال عدوان، فهذا كمال خير بك أيضاً ممن نذروا أنفسهم للتحرر السياسي والاجتماعي في حياته التي لم تكن طويلة، لكنها كانت حافلة بالشعر والثورة والإنجازات.

اهتمام متأخر ولكن مهم

في كثير من المناسبات يذكر كمال خير بك، ويذكر شعره بما يحمل من ثورية وحداثة وفكر وسياسة، وغالباً ما نقف عند أثر من آثاره أو اثنين على أحسن تقدير، فلا وجود لأعماله الكاملة، ورسالته الأكاديمية قليلة الانتشار، وعند مراجعة ما يتوافر من شعره، فإننا نجد شاعراً مختلفاً في فكره وحداثته وومضته الشعرية، وقد حاول د. وائل بركات في جلساتنا العلمية البحث عن أعمال كمال خير بك، وطرق كل باب من أجل الحصول عليها، ولم يثمر تعاوننا على ذلك إلا على الوصول إلى العناوين ذاتها، ولكن الصديق بركات عزم على إحياء تراث هذا الشاعر الحداثي والأصيل، الشاعر الثائر الذي أعطى حياته للعمل الثوري، وكان لغزاً صعب على المحتل أن يحله، فأشرف على أطروحة علمية عن كمال خير بك أعدت وما تزال على عينه، تزاوج ما بين الشعر والنقد والرؤية، ولكن د. وائل بركات فاجأ القارئ بكتاب مهم صدر عن الهيئة السورية للكتاب- وزارة الثقافة بعنوان «كمال خير بك- شاعر يرسم معالم النهضة والحداثة» ضمن سلسلة (آفاق ثقافية) التي تصدرها الوزارة لعموم القراء والمثقفين.

كمال وتعميم تجربته

ما بين اسمه الحركي الثوري المستمد من فكره الحزبي (قدموس) واسمه الحركي الثاني (أبو زياد) عاش كمال حياة غير مستقرة من زواج أعطاه زياداً وكان يعاني مرضاً، ثم انفصال، ثم زواج آخر، وما بين موته العبثي في ساقية الجنزير، وقد اختلفت الروايات، كما يذكر الدكتور بركات ما بين رصاصة حمقاء، أو قذيفة استهدفت البناء، كان كمال خير بك مع رفيقه وقريبته ضحايا هذا الحادث المفتعل.. ما بينهما عاش حياة ثورية، وكان هدفاً للعدو الصهيوني، لأنه أقضّ مضجعه في كل مكان حلّ فيه من سورية إلى لبنان إلى أوروبا، وكان هدفاً في أثناء إعداده للدكتوراه في باريس.. هذه الوفاة المحزنة والمؤلمة وضعت نهاية لمناضل عنيد، ولمبدع أسهم في الحداثة منذ غادر سورية في خمسينيات القرن العشرين باحثاً عن فضاءات الحرية والإبداع، وهذا الكتاب يميط اللثام بلغة سهلة عن حياة هذا المبدع الذي كاد النسيان يطويه.

الحداثة والشعر

أصبح ضرورياً أن تتحرك القوى المثقفة والفاعلة لوضع حد لهذا التأخر عن مسايرة ركب الحضارة، يحدد المؤلف أن الحداثة في منحيين، المنحى الفني والمنحى الفكري، وهذا ما عمل عليه شعراء الحداثة الشعرية العربية بوعي وثقافة حيناً، وفي ظل غياب الرؤية أحياناً، وكمال خيربك من الشعراء الحداثيين الطليعيين، لما ملك من رؤية نقدية وشعرية وما اختزن من ثورة على الظلم والاستعمار والتخلف.

أيا فلسطين اسمعي واركعي
لعلّ في الدعاء
خبزاً وماء
لعل في غياهب السماء
سحابة تمطر في ليلنا
مجداً وفجراً دائماً وانتصار
وأنت يا وهران ظلي معي
ظلي مع النيران والأخطار
فشعبنا ما زال يهوى السلام
ما زال يهوى السحر والانتظار
ظلي فمنك الجرح والآلام
ونحن، منا، عسكرٌ من كلام.

الشاعر في شعره عامة، وفي هذه المقطوعة خاصة يحمل دعوة مهمة للخلاص من الواقع الراهن، ومغادرة طواحين الهواء لأي سبب كان، فالنهضة الفكرية لابد أن تصحبها صحوة فنية وشعرية وحداثية تتناسب مع الحياة الحالية وتواكبها، وفي النص أصالة غير خافية في بناء الحداثة على جذور أصيلة.

كيف للشاعر بعد
أن يواري صوته أو قلمه
تحت أكوام الرمال
كيف لا يفجِّر في كل البيوت
والحروف الناعمة
ألف زلزال ورعد

دعوة للثورة على ما هو سائد ومعروف، والشاعر هنا يمازج بين ما يؤمن به سياسياً وفكرياً، وهو ما دفعه لفضاءات بيروت، وبين الحداثة كمفهوم فني، لابد من الثورة على السائد في كل ميدان ليصل الإنسان إلى ذاته المتساوقة مع المجتمع، وقد كان كمال خيربك في دراسته الأكاديمية وطروحه النقدية كما في شعره، وتعد دراسته من أعمق دراسات الحداثة، وأكثرها توءمة بين الفكر والفن، ولن أدخل في تفاصيل ترهق الحديث عن الشاعر ومكوناته التي جعلته ثائراً وفناناً مبدعاً لتسحبه ذات لحظة قدرية أو عبثية من خارطة الفكر الثوري الحداثي العربي، وذلك بشهادة كل من عرف الحداثة وعمق ما طرحه الشاعر.

كان مثلي شاعراً يصطاد ظله
ثم أدركنا معاً أن السراب
كان في أشعارنا الحيرى مظلة
لسؤال ساذج دون جواب
أننا كنا ضحايا
في صحارى الاغتراب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن