من دفتر الوطن

ذكرياتي

| عصام داري

اليوم أستعيد بعض لحظات الفرح في حياتي، والمؤسف أنها كانت في عهد الطفولة.

من بين تلك اللحظات أذكر أنني كنت أطير فرحاً عندما تقرر والدتي اصطحابي إلى سوق الحميدية للتسوق، فأنا أعرف مسبقاً أنني سأحصل على قطعة ملابس جديدة أو قطعتين، لكن فرحي ليس لهذا السبب وحسب، بل لأن زيارة سوق الحميدية يعني أننا في نهاية المطاف سنتناول «زبدية» مثلجات لذيذة (بوظة) من أشهر محل في دمشق، أي بكداش.

محال بكداش هذه تصنع أنواعاً من البوظة، أي الآيس كريم، منها السادة مع قليل من برش الفستق الحلبي ومنها المعجونة بالقشطة (القشدة) والفستق الحلبي المدعّم، وشهرة هذه المحال أضحت عالمية إذ تناولها كل من زار دمشق من ملوك ورؤساء ووزراء أجانب منذ عام 1889، ما شاء الله!.

بعدما تجاوزت سن الطفولة اهتديت مع رفاقي في المدرسة إلى محال أخرى تقدم نوعاً مختلفاً من البوظة، ومنها كافتريا «ديليس» التي كنا نتناول فيها قطع الكاتو الشهية مع فنجان الكاكاو في فصل الشتاء والمثلجات في فصل الصيف، لكنها ليست كمثلجات بكداش، بل ذات نكهات مختلفة: الشوكولا والفانيليا والليمون والفريز وغير ذلك.

يا اللـه كم هرمنا!

المهم، في هذا المحل، وكان ذلك في مطلع ستينيات القرن العشرين، تعرفت لأول مرة على السيد «شوكولامو» وكان يوماً مفصلياً وتاريخياً في حياتي، فما إن تذوقت أول لقمة من هذا المنتج العجيب حتى بدأت «أدرغل» باللغات الأجنبية، وخاصة الفرنسية، في تلك اللحظة وضعت قدمي على أول درجة في سلم الحضارة البشرية!.

والشوكولامو- يا سادة يا كرام-هو نوع من المثلجات على نكهة الشوكولاته موضوعة في كأس ممشوق القوام مع ملعقة طويلة تناسب طول الكأس، وفوق المثلجات توضع الكريما وصوص الشوكولا السائل، وهو شيء نفيس فعلاً.

وكي لا يساء فهمي فأنا لا أرد على أحد إطلاقاً، أكيد.. أكيد.. أكيد ليس رداً، فما أدونه مجرد ذكرياتي الحلوة، ولو كنت أريد الرد فأسهل طريقة هي المباشرة، وكنت سألجأ إلى «التجريص»، وهي طريقة قديمة كانت تستخدم للتشهير بالفاسدين واللصوص والسفهاء، فيضعون المطلوب تجريصة على حمار بالمقلوب ويطوفون به في المدينة ويستخدمون الجرس لتنبيه الناس.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فمن ذكرياتي الطفولية الحلوة، أنني كنت أفرح عندما يطلب مني مدير مدرستي الابتدائية وفيق فوق العادة إحضار الجرس من غرفته وتنبيه التلاميذ بأن «الفرصة» انتهت وعليهم العودة إلى الصفوف.

كم نحتاج اليوم إلى عقوبات علنية للفاسدين واللصوص والسفهاء على طريقة «التجريص» وليس كما يستخدم البعض هذا «التجريص» لنشر الفضائح كي يحصل على شهرة تافهة على شاكلته.

لا أدري السبب الذي يجعلنا نخفي الأسماء الحقيقية للمجرمين واللصوص والفاسدين عند إلقاء القبض عليهم! والإشارة إليهم بالأحرف الأولى من أسمائهم، بالمقابل، هناك أشخاص لا يستحقون مجرد ذكر أسمائهم، لأنهم يتمتعون بذلك، فلو ذكرتهم بالخير أو الشر فأنت تقدم لهم فرصة إضافية للشهرة، وهناك مثل شعبي يقول: يحبون العلية ولو على الخازوق!.

مع أني أكره ذكر تلك العقوبة التي استخدمت قديماً إلا أن هناك أشخاصاً لا ينفع معهم إلا الخازوق، لكن المؤسف أن المواطن العادي هو من يتعرض للخوازيق المعنوية المتمثلة بالغلاء بالتحليق العالي للأسعار والغوص العميق للرواتب والأجور.

مع تمنياتي بحدوث العكس، أي التحليق العالي للرواتب والغوص العميق للأسعار، وهذا هو أمل إبليس بالجنة!.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن