تحولت المملكة العربية السعودية إلى محط اهتمام عواصم القرار ومراكز الأبحاث والدراسات في العالم، وذلك بعد التحولات الداخلية الإقليمية والدولية الجارية في سياستها، تبعاً لمجريات ثورة ولي العهد السعودي وطموحاته الرامية إلى وضع السعودية في مصاف الدول المؤثرة في رسم الخرائط السياسية الاقتصادية في المنطقة والعالم.
بعض المراقبين يعتقدون أن التحول اللافت في الموقف السعودي، بدأ مع الإعلان عن اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران في بكين في السادس من أيار المنصرم 2023، بيد أن التحول الفعلي للسعودية، بدأ مع إعلان منظمة «أوبك بلس» خفض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يومياً، بقرار سعودي وبتنسيق مع روسيا، الأمر الذي أثار حالة غير مسبوقة من الهلع والغضب في واشنطن.
هلع واشنطن لم يقتصر على جرأة القيادة السعودية برفض الطلب الأميركي زيادة إنتاج النفط، لكن ما أقلق واشنطن هو قرار القيادة السعودية رفع شعار «السعودية أولاً»، وذلك لضمان تحقيق التنمية والازدهار والنهوض بالسعودية إلى مصاف الدول المؤثرة، وهذا ما يفسر المحاولات الدؤوبة لولي العهد الهادفة إلى تصفير المشاكل وإطفاء الملفات الملتهبة في المنطقة، ولاسيما ملفات اليمن والسودان وسورية، بالإضافة إلى ملف القضية الفلسطينية.
كل ذلك ترجم في القمة العربية في دورتها 32 التي انعقدت في جدة وما سبقها من محاولات لجمع الفرقاء المتحاربين في السودان، للتوصل إلى هدنة دائمة، إضافة للجهد السعودي الملحوظ الذي أنتج إجماعاً عربياً لعودة سورية إلى مقعدها في جامعة الدول العربية، وتوج بحضور الرئيس بشار الأسد القمة العربية بعد انقطاع أكثر من 12 عاماً.
إن الطلب السعودي بالانضمام إلى مجموعة البريكس، دليل واضح على أن الرياض اتخذت منحى مختلفاً في سياستها التقليدية تجاه واشنطن، ليس بنية الاستعداء أو إدارة الظهر كما يشاع، وإنما لتأمين المصلحة السعودية وضمان التنمية والصناعة وتطوير التكنولوجيا ولجعل المملكة نقطة ارتكاز وقاطرة للنظام العربي، في ظل تشكل النظام العالمي الجديد، حتى إن محمد بن سلمان نفسه، وعلى الرغم من افتقاد الكيمياء بينه وبين إدارة الرئيس جو بايدن، لم يبد أي نية لاستعداء إدارة الديمقراطيين، وهذا ما يفسر التبرع السعودي السخي مرتين لأوكرانيا، وهذا أيضاً ما يفسر دعوته للرئيس الأوكراني زيلنسكي لحضور القمة العربية في جدة.
أمام المتغيرات الحاصلة في السياسة السعودية قبل القمة العربية وبعدها، رُصدت أمور عدة قامت بها واشنطن تدعونا إلى التبحّر ملياً، برسائل الاستفسار والقلق الأميركي، الذي بدا ظاهراً من خلال الزيارات المتتالية للموفدين الأميركيين، من وزير الخارجية أنطوني بلينكن، ورئيس مكتب الأمن القومي جاك سوليڤان، ورئيس جهاز المخابرات الأميركية وليم بيرنز، وذلك في محاولة أميركية إلى فرملة الطموح السعودي الذي ترى فيه واشنطن خروجاً عن التنسيق المعهود معها، الأمر الذي قد يفقدها امتلاك الهيمنة على العديد من ملفات المنطقة.
ومن الإشارات التي نظر إليها الجانب الأميركي بانزعاج كبير، استقبال ابن سلمان للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، الخصم اللدود لواشنطن، واستعراض سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وذلك قبل 24 ساعة من زيارة بلينكن الأخيرة إلى الرياض للقاء ابن سلمان بهدف المحاولة لإعادة ضبط حرارة التنسيق السعودي الأميركي.
بلبنكن وبغرض التخفيف من التوتر الحاصل بالعلاقة مع السعودية صرح وعلى مضض، أن الولايات المتحدة لا تُخيّر الدول الأخرى بينها وبين الصين، وفي تلميح إلى النتائج التي تمخضت عن اتفاق بكين، وعودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، أشار بلينكن إلى أن بلاده تُرحّب بخفض التصعيد في الشرق الأوسط.
تصريحات بلينكن تأتي وسط تداول أنباء تؤكد التوصل إلى اتفاق مؤقت مع إيران لوقف التخصيب بنسبة 60 بالمئة، في مقابل حصول إيران على ودائع مجمدة في كوريا الجنوبية والعراق وحقوق سحب خاصة لدى صندوق النقد الدولي توازي مجتمعة 24 مليار دولار، حسب ما ورد في وكالة «تسنيم» الإيرانية وموقع «ميدل إيست إي»، الأمر الذي يفسر نجاح الوساطة العُمانية بالتوصل لمثل هذا الاتفاق، والتي تكللت بزيارة السلطان هيثم بن طارق إلى طهران.
هذا الاتفاق المنجز، أظهر الخلاف بين واشنطن وإسرائيل للعلن، ما أثار غضب رئيس حكومة كيان العدو بنيامين نتنياهو وبالتالي الإعلان عن إلغاء زيارة بلينكن التي كانت مقررة إلى تل أبيب، هذه الأنباء رفعت نسبة التوتر في إسرائيل إلى درجة جعلت نتنياهو يهاتف بلينكن على عجل، محذراً بأن ما يُلزم أميركا لا يُلزم إسرائيل تجاه إيران.
لكن بلينكن أعلن صراحة عدم تأييد بلاده لعودة سورية إلى الأسرة العربية، مشدداً في ختام محادثاته مع ابن سلمان، على التزام واشنطن بأمن الكيان الصهيوني وبحل الدولتين، ونلفت إلى أن وزير الخارجية الأميركي طلب صراحة من ابن سلمان تسريع خطوات إعلان التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في مقابل ذلك وخلال المؤتمر الصحفي مع بلينكن، دافع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، عن دعوة الرئيس بشار الأسد إلى القمة العربية، قائلاً: إن «الوضع الذي كان قائماً في سورية لم يكن مجدياً، إنما كان يخلق عبئاً متزايداً على دول المنطقة وعلى الشعب السوري».
وفيما يخص السودان، أقر ابن فرحان بأن المساعي السعودية لوضع حد للنزاع لم تحقق «نجاحاً كاملا»، لأن الطرفين المتحاربين لم يلتزما بذلك، لكنه أكد أن التعاون مع الولايات المتحدة مستمر للتوصل إلى «هدنة أخرى»، في إشارة إلى وجود عرقلة أميركية واضحة.
وفي موقف لافت تجاه اتفاقات التطبيع مع العدو الإسرائيلي، كرر الوزير السعودي ابن فرحان موقف بلاده الرافض لعملية التطبيع مع إسرائيل، معتبراً أن التطبيع قبل حل القضية الفلسطينية وحسب مقررات المبادرة العربية 2002 لن يكون مجدياً.
أما فيما خص الملف اليمني فبدا واضحاً أن واشنطن، ترغب بإبقاء هذا الملف جرحاً نازفاً لابتزاز السعودية، وظهر جلياً معارضة بلينكن للمساعي السعودية الرامية لإغلاق ملف اليمن، بمعزل عن التنسيق السعودي مع واشنطن.
تأخير لقاء بلينكن مع ولي العهد السعودي لساعات وبشكل متعمد، قابله تطمين سعودي من ابن فرحان، بأن العلاقات السعودية الصينية لن تكون على حساب العلاقة الإستراتيجية والتنسيق المستمر مع واشنطن رغم اعترافه بوجود تباين بين الجانبين.
يبقى السؤال: هل تتمكن واشنطن من فرملة الطموح السعودي، أم إن السعودية قررت المضي قدماً في سياساتها الرامية إلى تزعم المنطقة؟
ويبقى ملف التطبيع السعودي مع العدو الإسرائيلي هو المحك.