قضايا وآراء

حكومة أردوغان الثالثة

| عبد المنعم علي عيسى

يشير فوز حزب «العدالة والتنمية» ومعه الرئيس رجب طيب أردوغان بانتخابات 28 أيار الماضي، إلى العديد من المؤشرات التي من أبرزها أن الاثنين، أي الحزب والرئيس، استطاعا الالتفاف على الكثير من المعوقات التي كانت تهدد فوزهما سابق الذكر بحرفية سياسية مشهودة ظهرت عبر الاستثمار الأمثل لمعطيات داخلية وإقليمية على حد سواء، لكن من أبرزها أيضاً أنها أظهرت انقساماً في المجتمع التركي تجاه المشروعين الذين خاضا تلك الانتخابات أحدهما بجلباب «العلمانية» وثانيهما برداءة «الإسلامية» المصبوغة بنزعة «العثمانية»، والانقسام سابق الذكر تظهره النتائج التي آلت إليها جولة الانتخابات الثانية، حيث سيراوح المشروعان على ضفاف نسبة الـ50 بالمئة فيكون الفارق بينهما ضئيلاً، مما لا يشير إلى وجود توجه مجتمعي عام داعم بقوة للتوجه الذي فاز، وفي مطلق الأحوال تشير النسبة السابقة إلى جانب تركيبة البرلمان التي أفرزتها محطة 14 أيار إلى أن حكومة حزب «العدالة والتنمية» ستكون عاجزة عن القيام بتعديلات دستورية وازنة من حيث إن الأخيرة يلزمها كتلة نيابية تزيد على الـ400 نائب في حين أن المستحصل عليه كان 322، الأمر الذي يعني أن إستراتيجية الدولة ستقوم بشكل أساسي على «إدارة المتناقضات» مع الاحتفاظ بهامش مناورة ضيق تتيحه الأغلبية الطفيفة، ولن تستطيع تلك الإستراتيجية القيام بأي تحولات وازنة، كانت تطمح للقيام بها بالتأكيد، انطلاقا من ترسيخ مشروعها الداخلي الذي يهدف إلى تعميق «النزعة الأردوغانية» التي باتت ولا شك ذات تأثير منغرس في المجتمع التركي ما بعد أيار 2023.

كانت التركيبة الحكومية التي أعلن عنها في أنقرة بعد أيام من إعلان نتائج الانتخابات قد احتوت على العديد من المتغيرات التي تمثل بالتأكيد مؤشراً على اتجاه البوصلة التركية تجاه رزمة من الملفات والقضايا التي جهدت السياسة التركية في غضون العقد الفائت للتأثير فيها بشتى أنواع السبل والأدوات من دون أن تستثني العسكرية منها التي كانت صارخة في سورية وبدرجة أقل في ليبيا، وعلى الضفة الأخرى أيضاً التي كانت تشهد صراعاً أرمنياً أذربيجانياً تعالت نبرته حتى استدعى فعل الاحتكام للسلاح العام 2019، وفي الغضون كانت تلك السياسة أيضاً تعمد إلى تعويم دور استخباراتي بدرجة كبيرة ما استدعى توصيفها في حينها بـ«الدبلوماسية الاستخباراتية» التي كان يحركها في الظل رئيس جهاز الاستخبارات التركية المزمن حقان فيدان الذي أطبق سيطرته على ذلك الجهاز منذ العام 2010 قبيل أن يغادره قبل أيام، في حين كانت وزارة الدفاع، تحت إمرة خلوصي آكار، أشبه بـ«أداة تنفيذية» ينحصر دورها في تقييم العمليات العسكرية التي تنفذها قواتها من الناحيتين اللوجستية والتعبوية بما لا يتناسب مع الدور الذي لعبته تلك الوزارة على امتداد ما يزيد من مئة عام هي عمر قيام الجمهورية التركية الحديثة، إذ كثيراً ما كان لتلك الوزارة دور في تثقيل دور مرشح أو رئيس على حساب أطراف مناوئة لهما، بل وكثيراً ما تدخلت لقلب الأوضاع رأساً على عقب في المرات التي ظهر فيها أن السدادة الموجودة في عنق الزجاجة لن يزيلها إلا الكسر.

نقول حملت حكومة أردوغان الثالثة متغيرات عديدة لكن الأبرز منها كان اثنان، أولاهما تكليف حقان فيدان بحقيبة الخارجية الأمر الذي يمثل سابقة غير مشهودة على مر تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، فالرجل الذي بات رأس حربة الدبلوماسية ينحدر من جذور عسكرية استخباراتية، صحيح أن «المكلف» كان يلعب من خلال منصبه السابق في رئاسة الاستخبارات دوراً بارزاً في توجيه السياسات التركية الخارجية، لكن ذلك كان في «الظل» وخروجه للعلن فعل له مدلولات عديدة، وثانيهما تعيين ياشار غولر، الذي شغل منصب رئيس هيئة الأركان قبيل أن يكون على رأس جهاز الاستخبارات العسكرية، بمنصب وزير الدفاع خلفاً لخلوصي آكار الموصوف من قبل وسائل إعلام مقربة من أردوغان بأنه «فاقد للقدرة على الحركة من دون جهاز توجيه أو تحكم»، كما كانت تلك الوسائل تصف مولود جاويش أوغلو بأنه «بارع بصب الزيت على نار السياسات النزاعية لرئيسه بدلاً من قيامه بامتصاص التوترات»، ولذا فإن التغييرين يحملان معاني يفترض فيها أن التوجهات الجديدة يجب أن تختلف عن السابقة، وأقله أن تأخذ درجة ميلان عنها.

تقول السيرة الذاتية لفيدان أن المسألة الكردية كانت في صلب اهتماماته، وأنه كان عضواً في المفاوضات التي أطلقها أردوغان مع الأكراد العام 2009، لكنه، كما تصف تقارير كردية، كان متشدداً في تلك المفاوضات بدرجة ساعدت في فشلها، وإن كانت هناك العديد من العوامل التي ساعدت في الوصول إلى تلك النتيجة، ولربما تفضي تلك المعطيات إلى نتيجة تقول إن من الراجح أن يكون تعيين فيدان على رأس الدبلوماسية التركية مؤشراً على تغليب المسألة الكردية في سياسات الحكومة الراهنة بكل ما يفترضه الفعل من «تسخينها» واحتدام معالجتها عسكرياً الأمر الذي يتطلب خلق أجواء «التبريد» مع كل من سورية والعراق، أما السيرة الذاتية ليشار غولر فتقول أيضاً بأنه متصلب في سياسات الأمن القومي التي تصب أيضاً في سياقات فيدان آنفة الذكر.

كنتيجة يمكن الترجيح بأن ملامح حكومة أردوغان الثالثة تشير إلى «تعويم» المسألة الكردية وجعلها على رأس اهتماماتها، وتشير أيضاً إلى إمكان الذهاب إلى مراحل أعلى في مسار التطبيع التركي مع كل من سورية والعراق بالدرجة الأولى، إضافة إلى تعميق العلاقة مع روسيا كفعل لا بديل عنه للوصول إلى توافقات في ليببا وفي الصراع الأرمني الأذربيجاني، لكن التحدي الأكبر سيكون في سورية التي كان فيدان يمسك بالكثير من الخيوط لتحريك البيادق فيها، واليوم بات واجهة الصورة ومن الصعب عليه الاستمرار في نهجه السابق، ناهيك عن أن الكثير من المعطيات قد تغيرت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن