من دفتر الوطن

قصص ملفقة

| حسن م. يوسف

الفنانون يكذبون كي يقولوا الحقيقة. وعندما لا يستطيع الفنان أن يتكلم بلسانه خوفاً عليه من القطع، قد يجعل الحيوانات تتكلم نيابة عنه، كما فعل ابن المقفع في «كليلة ودمنة».

لطالما أعربت عن احترامي للحكاية باعتبارها واحدة من أقدمِ وسائلِ التأثيرِ الفني في التاريخ، فالحكاية ليست ابنة من يرويها، إذ غالباً ما تكون ابنة مجتمع بكامله، ولهذا تنطوي بعض الحكايات على سحرٍ يفوق قدرة أي فرد على الإبداع. لذا أشعر عندما أقع على حكاية جيدة، أن من واجبي إعادة صياغتها كي أستخدمها رافعةً عاطفية لحمل أفكاري ومشاعري إلى وجدانِ القارئ.

قبل بضعة أسابيع أرسل لي أحد الأصدقاء الافتراضيين حكاية استوقفتني بقوة. بطل الحكاية جنرال ألماني يدعى جلوبز هويزنجر. قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية أدرك هذا الجنرال أن بلاده ألمانيا في سبيلها لخسارة الحرب، ونظراً لأنه لم يكن معجباً بسياسات هتلر، فقد انشقّ عن جيش بلاده وفرّ إلى بريطانيا في محاولة منه لعقد صلح مع الحلفاء يجنِّب بلاده المزيد من الدمار وويلات الحرب. لكن البريطانيين لم يبدوا اهتماماً يذكر بفكرة الصلح، بل عرضوا اللجوء السياسي على الجنرال، إضافة إلى راتب محترم وبيت في الرّيف الإنجليزي، شريطة أن يكشف لهم أسلحة الجيش الألماني وأماكن توضعه وروح جنوده المعنوية. لكن الجنرال جلوبز هويزنجر رفض إعطاء المحقّقين البريطانيين أي معلومات عسكرية، وقال لهم: «أنتم لا تطلبون معارضاً لهتلر، أنتم تريدون خائنا لوطنه وأنا لا يمكنني أن أكون خائنا لوطني»!

تفيد الحكاية أن الجنرال الألماني أراد العودة إلى بلاده رغم معرفته أن ذلك يعنى الموت المحتّم بتهمة الخيانة العظمى، غير أن الاستخبارات البريطانيّة رفضت طلبه وقامت بتعذيبه بغية انتزاع المعلومات منه إلى أن مات تحت التعذيب!

كانت الحكاية محبوكة ومقنعة إلى حد كبير، كما ترون، وقد زادتها إقناعاً صورة فوتوغرافية أُرفِقتْ بها لجنرال أشقر بالزي الرسمي. لكن ذلك كله لم يبدد الشكوك التي تراكمت في داخلي بسبب الكتّاب المزيفين والأفكار والحكايات المزيفة، وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي. قمت بالبحث عن هذا الجنرال بالعربية، فلم أجد ذكراً له إلا في هذه الحكاية التي سردت غير مرة بأشكال مختلفة. بحثت عنه بالإنجليزية فتبين أنه لم يكن في الجيش الألماني جنرال يدعى جلوبز هويزنجر، والاسم الوحيد المشابه له هو للقائد الجنرال الألماني أدولف هيوزنجر Adolf Heusinger، كما تبين لي أن الصورة المنشورة مع الحكاية هي للأميرال الأميركي شيستر نيميتز!

في كل يوم نكتشف أقوالاً وحكايات ملفقة تنسب للمشاهير، وقد ضبطت مقولات عديدة مزيفة تنسب للشاعر محمد الماغوط وللروائي حنا مينه، وما يؤسف له أن هذه المقولات تجد دائماً من يروجها وينشرها!

قبل سنوات نشرت في هذا الركن مقالاً عن وصية ماركيز المزيفة، لكن تداول تلك الوصية الملفقة لا يزال مستمراً حتى اليوم! والشيء المضحك هو أن بعض أصدقاء صفحتي لا يزالون يرسلون تلك الوصية لي بين وقت وآخر!

صدق الكاتب الأميركي الساخر مارك توين إذ قال: «يمكن للكذبة أن تسافر نصف المسافة حول العالم قبل أن تنتهي الحقيقة من لبس حذائها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن