ثقافة وفن

جامعة دمشق.. مئة عام من الإبداع والعلم والعربية … الجامعة التي منحت الطلاب العرب العلم والمعرفة عبر عقود وبصورة مجانية

| إسماعيل مروة

احتفلت جامعة دمشق الأسبوع الماضي بمرور مئة عام على انطلاق عملها التعليمي والتنويري والأكاديمي، وجامعة دمشق هي الجامعة الأم في سورية، فإليها كان السوريون يتوجهون لنهل العلم والمعرفة، ومن جامعة دمشق انبثقت أولى الجامعات بعدها جامعة حلب، ومن ثم تشرين والبعث والفرات، واليوم ما تزال جامعة دمشق هي الأم التي ترتبط بها جامعات وفروع أخرى مثل القنيطرة ودرعا والسويداء.. مئة عام وجامعة دمشق تتربع مكانتها في العلم والمعرفة، وتتوسع وتستقبل.

قامات وجامعة عريقة

مئة عام من حياتها وهي تستقبل القامات العلمية الكبرى التي تولت مهام رئاستها من رضا سعيد إلى قسطنطين زريق وحسني سبح ومحمد الفاضل، وغيرهم كثير من القامات التي أدت أدواراً علمية ونهضوية وإدارية على مستوى الوطن العربي والعالم، فهذا رضا سعيد الأول والمؤسس وصاحب الجهود الكبيرة كما يذكر كاتب سيرته الدكتور صباح قباني، وهذا حسني سبح أحد أعمدة تعريب العلوم في كلية الطب، والطبيب البارع، ورئيس مجمع اللغة العربية حتى وفاته، وهذا الباحث الكبير قسطنطين زريق رئيسها الذي ترك بصمته في الغرب، وكان انتماؤه للثقافة العربية، وقد يكون العربي الوحيد الذي جمع على فترات بين رئاستي جامعة بوزن جامعة دمشق والجامعة الأميركية ببيروت، ووصل اسمه إلى الآفاق، ومحمد الفاضل الحقوقي العالم الذي دافع عن الحقوق العربية الفلسطينية خارج الأرض العربية، فكان العالم المتقن، والسلسلة تطول، وأزعم أن جامعة دمشق في أغلب مراحلها كان يديرها عالم جليل.. ولا يحسن أن نعددهم فهم كثر ويحتاجون لكتاب يضمهم ويضم جهودهم.

الجامعة وتأسيس التعريب

جامعة دمشق مئة عام من العربية والاعتزاز بها، فعلى الرغم من الملاحظات التي تقال هنا وهناك، وفيها صحة أحياناً، إلا أن تجربة جامعة دمشق وبدافع من العلماء الكبار والتشريعات من البداية، حرصت، بل أوجبت التدريس باللغة العربية للمواد العلمية، طبية وهندسية وفيزيائية وكيميائية، وجامعة دمشق هي الجامعة الوحيدة في عالمنا العربي التي تقدم العلوم باللغة العربية، ابتداء من المعجمات الطبية، للخياط والكواكبي، ووصولاً إلى المعجمات المتخصصة في الجراحة والأعصاب وسواها، وصولاً إلى موسوعة (الطب الباطني) لهاريسون، وهي من أهم الموسوعات التي تعاقب على ترجمتها وإعدادها خيرة أساتذة كلية الطب في عقود، واستطاعت أن تكون منجزاً فيه الكثير من الضخامة والتحدي، وفي تعريب المواد العلمية برزت شخصيات وجهودها، مع أن الحديث دوماً يقتصر على كلية الطب، فكان الدكتور صلاح الأحمد وجهوده، والدكتور موفق دعبول وجهوده، والدكتور قدورة وجهوده والأستاذ وجيه السمان وجهوده، رحمهم اللـه جميعاً، وقد عاصرت عدداً منهم وأفدت من تجاربهم العلمية واللغوية والإنسانية، وحتى في مجال الآداب والعلوم الإنسانية، كانت الجهود عظيمة من العميد الشاعر شفيق جبري إلى الدكتور فاخر عاقل وغيرهما، فأرست جامعة دمشق قسم اللغة العربية على أصوله، وحملته مهمة العربية والحفاظ عليها، واستطاع هذا القسم أن يخرّج العلماء اللغويين السوريين والعرب، وتولى التدريس فيه علماء ومحققون على مستوى عال من سعيد الأفغاني إلى أحمد راتب النفاخ وشكري فيصل وليلى الصباح التي كانت بين التاريخ واللغة العربية بأسلوب عربي مبين، وفي الفلسفة قدّمت جامعة دمشق العلماء على مستوى العالم العربي مثل عادل العوا والطيب تيزيني وعبد الكريم اليافي ونايف بللوز وغانم هنا وغيرهم كثير، وأكتفي بذكر بعضهم الذين وصلت أعمالهم ونظرياتهم ودراساتهم كل أصقاع العالم العربي، وهذه الجامعة خرج منها عالم الاجتماع والخبير في علم السكان الدكتور صفوح الأخرس الذي عرّب وقدّم الكثير في هذا المجال ودراساته تشهد على ذلك والدكتور فاخر عاقل أول من ألف في التربية وعلم النفس، ويعدّ واحداً من رواد هذا العلم عربياً، وفي الحديث عن اللغة والتعريب لابد أن نذكر أن جامعة دمشق وحدها تقوّم الألسنة، ولا تقتصر عند المتخصصين، ولا يزال حاضراً الأستاذ الدكتور محمد توفيق البجيرمي بلغته العالية ولهجته الفصيحة، وهو الأستاذ العالم في اللغة الإنكليزية، لكن الناس عرفوه بلغته وفصاحته، ولم يكن ذلك لولا رعاية جامعة دمشق للغة العربية وعشاقها، ومن هذا المنجم العلمي الكبير خرج عدد من اللغويين والمجمعيين، ومنذ العصر الذهبي للعناية باللغة، وعدد من العلميين استلم رئاسة مجمع اللغة العربية، فهذا الأمير مصطفى الشهابي صاحب معجم المصطلحات الزراعية، وهذا الدكتور الطبيب حسني سبح، والدكتور الطبيب مروان المحاسني، إضافة إلى كوكبة من العلماء الذين توزعت مهامهم بين التعليم والعتعريب ورئاسة الجامعة الأم العريقة، والمهام العلمية، وعضوية مجمع اللغة العربية وكانوا لائقين وإضافة للمجمع والعلم والتعريب، بما حملوا من مواصفات نادرة من د. قدورة إلى د.البابا، إلى د. واثق شهيد.

جامعة دمشق والطلبة العرب

في أحد المؤتمرات كان أحد وزراء الثقافة العرب يتحدث عن دمشق حديثاً جميلاً ويسرد ذكريات نادرة، وفي شهادة مكتوبة تحدث عن فضل دمشق عليه، فهو درس في جامعة دمشق، وببعثة مجانية، ووصل إلى ما وصل إليه بفضل دراسته يوم لم يكن من جامعات في بلده، ولم يكن قادراً على الدراسة في مكان آخر، وبقي هذا الرجل مفاخراً بدمشق وجامعتها. ووزير إعلامي عربي درس في جامعة دمشق ويذكر ذلك، وإن كان قد انقلب وتنكر، وهذا دفعني للعودة إلى الدراسات والذاكرة، فإلى فترة قريبة من الزمن، تعود إلى أربعين سنة فقط عندما كنا طلاباً في الجامعة كان هناك اتحاد طلاب للصومال وأريتريا واليمن ودول أخرى، وكنا على مقاعد الدراسة مع زملاء من السودان وتونس والجزائر، وجميعهم جاء في بعثات علمية، ويسكن مجاناً، ويدرس مجاناً وفي عام 1983 وحتى عام 1987 كانت مرحلة الدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة دمشق تضج بالحركة، والطلاب لا يتوقفون عن المراجعة، وتحت إشراف أساتذة الجامعة، فكان الطالب العراقي والأردني، وكان عدد الطلاب الجزائريين يتجاوز العشرة بين ماجستير ودكتوراة وأغلبهم كان تحت إشراف الأستاذ الدكتور الراحل حسام الخطيب، ومن هؤلاء الذين كانت جامعة دمشق مقصدهم الروائي الجزائري المشهور واسيني الأعرج، وكانت البعثة الجزائرية مقسومة إلى قسمين طلاب وطالبات، جامعة دمشق في مئويتها من حقها أن تفخر بتخريج عدد كبير من الطلبة العرب، وإن كان الطالب العربي يذكر دوماً الجامعات التي درس فيها وتخصص، فإن جامعة دمشق هي الجامعة التي استوعبت مئات الطلاب العرب وغير العرب الذين وجدوا العلم والأجواء المناسبة، وحنان هذه الجامعة الأكثر عراقة وأصالة، وربما ينهض هؤلاء قبل فوات الأوان لتشكيل رابطة تضم خريجي هذه الجامعة، جامعة دمشق، الجامعة السورية الأولى.

التوسع والمجانية

منذ بدأت جامعة دمشق بمعهد الطب ومعهد الحقوق، وهي تتوسع، وتضيف اختصاصات إلى اختصاصاتها، وتتوسع أفقياً بما يناسب الفروع التي تفتتح، ولم تتوقف جامعة دمشق عن أي اختصاص حديث، مع العمل قدر الإمكان على الجوانب البحثية والمخبرية والميدانية، وكل ذلك ضمن سياسة مجانية التعليم التي مرّت بأطوار عديدة، لكن الجامعة تحافظ إلى اليوم على مبدأ المجانية من خلال وضع رسوم لا تصل إلى قسط في أي جامعة أخرى، وقد استطاعت هذه الجامعة الأم أن ترفد الجامعات الخاصة مع إحداثها وتوسعها بالخبرات والكوادر والطاقات والأساتذة، وقد ارتبطت شبكة الجامعات السورية بنظم وقوانين تجعلها قادرة على مجاراة أحدث الأساليب العلمية، والمحافظة على المستوى اللائق ورفد سوق العمل.

الجامعة وصناعة الإبداع

كانت جامعة دمشق وما تزال تحتفي بالطلاب المبدعين، وعلى كل مستوى، وإن تفاوت الاهتمام بسبب الظروف العامة، فإن جامعة دمشق أسست لمسرح مهم هو المسرح الجامعي الذي اتسم بالجدية والإبداع، والسوية الفكرية العالية، وقبل وجود المعاهد المتخصصة خرّج المسرح الجامعي الكثير من المبدعين الذين صقلتهم الجامعة، فكانت أعمال ممدوح عدوان التي انطلقت من المسرح الجامعي، وكان دريد لحام وكان هاني الروماني وأسامة الروماني ورشيد عساف وسلوم حداد وعباس النوري والكثير الكثير من المبدعين الذين وجدوا في رقي الجامعة وفكرها الميدان المناسب للتعبير عن أفكارهم النوعية.

مئة عام مرت على الجامعة العريقة التي من مدرجها انطلقت أكبر الأحداث، وفيه أقيمت أحلى الاحتفالات والأمسيات قبل أن يكون أي مدرج آخر. وعلى مدرجها أطلقت المبادرات السياسية، وأسابيع العلم، ومؤتمرات اللغة.. مئة عام وجامعة دمشق تزدهي بالعلم والمعرفة وتقف في وجه كل الأعاصير التي تعصف بسورية لتبقى منارة أولى وعظيمة في تاريخ سورية والعالم العربي، وستبقى المصدر والموئل لكل طالب علم يريد علماً جاداً ومهماً في مسيرة إنسان ووطن.

كثيرون هم الذين يتحدثون عن جامعة دمشق، وكثيرة المقالات والتعليقات، ولكن حسب هذه الجامعة أنها ضمت مع أخواتها البسطاء والطيبين إلى جانب الميسورين وأبناء الذوات، والقادمين إلى رحابة صدر سورية وقدرتها العلمية، ويكفي هذه الجامعة أنها رعت نهضة علمية مجتمعية كاملة، ومن الواجب علينا اليوم في مئويتها أن نجدد لها الألق الذي لم يفارقها، وأن نجعلها المنارة في تاريخنا وعلمنا وثقافتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن