محمد بن سلمان في باريس.. والتفاهمات النووية الإيرانية الأميركية تُبحر بهدوء
| فراس عزيز ديب
ثمةَ اقتناعٌ غير معلنٍ بين القوى الفاعلة في هذا العالمِ الملتهب بأن الوجود البشري باتَ على المحك، الخطر الداهم ليسَ كما يُقال من تبعاتِ الذكاء الاصطناعي الذي يمكن في النهايةِ ضبطه ولا حتى من الاحتباس الحراري الذي قد يتم التعاطي معه بأبعادٍ متعلقة بأبحاث الإنتاج الزراعي وما شابه، لكن الكلام الفصل هو لفكرةِ الصِّدام الذي قد يدفَع البعض لاستخدام السلاح النووي، ونحن لا نتحدث هنا عن مجردِ تكهناتٍ إنما نتحدث عن تهديداتٍ جدية رافقها نقل هذا النوع من الأسلحة وجعله في تمام الجاهزية للاستخدام تحديداً بما يتعلق بمسار الحرب الأوكرانية، هذا الاقتناع قد يتعارض مع مسار النبرة الحادة من جميع الأطراف وهذا الكلام مفهوم لأنه مرتبط بسياقات المكانة والدور لمطلقيها، لكنه حكماً يتوافق مع الحركة الدبلوماسية المنتعشة هذه الفترة إن كان على مستوى الزيارات التي غصَّت بها مطارات الدول الفاعلة، على سبيلِ المثال لا الحصر كالزيارة التي يقوم بها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى العاصمةِ باريس ولقائهِ الرئيس إيمانويل ماكرون، أو على مستوى التسريبات التي تتحدث عن نيةِ الولايات المتحدة توقيعَ تفاهمٍ هو أقل من اتفاق وأكبر من ضمانات مع إيران لا تكون بنوده بعيدة عن تلك التي شكَّلت اتفاق عام 2015، وشئنا أم أبينا تبدو هناك الكثير من التقاطعات بين الحدثين لا يمكن المرور عليها مرورَ الكرام فكيف ذلك؟
غالباً ما يُبدي الإعلام الفرنسي اهتماماتٍ خاصة بزوارِ الإليزيه تحديداً من دولِ الشرق الغنية لما قد يجنونه من استفادةٍ مادية مع التذكير هنا أن الكثير من وسائل الإعلام تلك التي تدَّعي المهنية تعتاش على الهبات الخليجية، لكن هذهِ المرة غابت الزيارة نوعاً ما عن التعاطي الإعلامي بذرائعَ بتنا نعرفها جميعاً، ديكتاتورية النظام السعودي كما يصفونه، مقتل الصحفي جمال الخاشقجي وغيرها لدرجةٍ أن هناك من طالب بإلغاء الزيارة، أما رئيس منظمة العفو الدولية في فرنسا جان كلود سامويلر فقال: «إن تحسين صورة المملكة يتطلب تحسينات ملموسة في وضع الناشطات والأقليات، وإلغاء عقوبة الإعدام»، لا ندري إن كان المطلوب أيضاً إقرار حقوق الشواذ، واللافت أن هذه المنظمات التي تدَّعي الحيادية تراها تصمت عن الوجود الفرنسي غير الشرعي مثلاً في سورية ومالي وغيرها، هؤلاء كما وسائل إعلامهم تحديداً تلكَ الممولة من قطر، تعيش حالةَ انفصامٍ منقطعِ النظير عندما يشنون حملات منظمة على المملكة ويتجاهلون بأن بؤرة الفساد الأولى في استضافة قطر لمونديال 2022 كانت فرنسية الصنع بأيدي رجال السياسة ومافيات الرياضة، بذات السياق فإن حالةَ الأمير محمد بن سلمان تؤكد الفكرة القائلة بأن الأفكار المسبقة في الغرب هي مجرد استعراضات تُخرجها وسائل الإعلام حسب من يدفع أكثر فوسائل الإعلام تلك تجاهلت كل ما قام بهِ ابن سلمان من نقلةٍ نوعية في السعودية اعترف بها العدو قبل الصديق وراحت تستعيد خطابات عفى عنها الزمن لكن هناك من سيسأل: وهل السعودية عاجزة عن الدفع؟
ببساطة هي ليست عاجزة لكن المنطق السعودي تغير، هم لا يرون بأنفسهم اليوم مضطرين لشراءِ حملات تجميلٍ لسياسات المملكة أو ما شابه في الوقت الذي باتت فيهِ المملكة رقماً صعباً لا يمكن تجاهله، فالمملكة اليوم تبدو في وضعٍ اقتصادي وسياسي تتقدم فيه على الكثير من الدول التي تطالبها بالإصلاح، كما أن المملكة اليوم ليست مضطرة لاستجداءِ أحد سياسياً أو اقتصادياً بل بمنطق الأرقام تبدو فرنسا هي التي تستجدي المملكة العربية السعودية منذ الزيارة التي قام بها ابن سلمان في عام 2018 وما تضمنته من توقيع اتفاقياتٍ اقتصادية وثقافية وعسكرية دعمت الخزينة الفرنسية عبر استثماراتٍ خيالية، وصولاً لاستمرارِ الدعم المالي لما تسميه فرنسا محاربة الإرهاب في الساحل الإفريقي، والسعودية اليوم تبدو وكأنها أوقفت العطاء المجاني، بمعنى آخر فإن المملكة تريد من فرنسا المساعدة الفعلية بإعادة الأمن في الشرق الأوسط والذي يبدأ عملياً من إنهاء الحرب على سورية، تماماً كما تستجدي فرنسا من المملكة التوسط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، هل سيرضخ الاتحاد الأوروبي بالنهاية للرؤية العربية عموماً والسعودية- الإماراتية خصوصاً لمستقبلِ إعادة الإعمار في سورية والذي لا يمكن له أن يبدأ دون رفع العقوبات؟
الجواب هنا لا يبدو بأنه سيتأخر، تحديداً أن هناك كلاماً عن سيناريوهات متوقعة في حال رفض الاتحاد الأوروبي رفع العقوبات، هل ستضرب الدول الخليجية الفاعلة كالإمارات والسعودية عرضَ الحائط بكل هذه العقوبات إن لم يجد الاتحاد الأوروبي صيغة ما لتقليلِ آثارها؟ نظرياً هي قادرة على ذلك أما من الناحية العملية فإن الجواب عن ذلك يكون بالإيجاب عندما تتوافر البدائل لكل ما يمكن له لي الذراع الخليجية والبدائل اليوم تبدو متوافرة تحديداً عندَ كل من الصين وروسيا، مع التذكير هنا بأن الدخول السعودي على خط الوساطة لإنهاء الحرب الأوكرانية هو الأكثر قبولاً عند جميع الأطراف، تلك الحرب التي يعرف المواطن الأوروبي الذي يتسوق حاجاته كل يوم ماذا فعلت بقدرتهِ الشرائية، فهل هناكَ من متسعٍ للمكابرة؟!
على المقلبِ الآخر لم يكن الحديث عن تسريباتٍ لاقتراب الولايات المتحدة من توقيع تفاهمٍ مع إيران مفاجئاً إلا لمن يريدُ رؤية المشهد الدولي منفصلاً عن المشهد الإقليمي، تحديداً أن التسريبات هذهِ المرة مصدرها أميركي صرف، بالطبع لا يمكن الجزم بصحةِ هذه التسريبات لكن يمكننا استقراءها بالإجابة عن هذا السؤال: هل باتت الولايات المتحدة فعلياً بحاجة لهكذا تفاهم؟
في العودة إلى سنواتٍ قليلة ماضية، دائماً ما كنا نتعاطى مع الوضع الملتهب في منطقة الخليج العربي من مبدأ ضرورة اعتماد الواقعية السياسية من الأطراف الفاعلة، فلا الإيراني يستطيع إخراج الأميركي من المنطقة بقوة السلاح مهما علت نبرة التهديد وكنا نقول تحديداً «أميركا لا تسقط بالصراخ»، وبذات السياق لا يمكن للسعودي الاتكال على الوجود الأميركي لحمايتهِ من المخاطر المحدقة بما فيها ما يسمونه «الخطر الإيراني»، الحل الأول والأخير كان في تقاربٍ يُعيد تشكيل العلاقةِ بينهما على أسس الاحترام المتبادل وعدم التدخل بالشؤون الداخلية تحت أي ذريعة، عندها يصبح الوجود الأميركي بلا معنى ويسحب الكثير من الذرائع أهمها فكرة التحريض المذهبي، وهو ما تحقق، والذي نتمنى لهُ أن يستمر حتى تصل العلاقة نحو تكاملٍ اقتصادي وأمني لأنه حكماً سينعكس إيجاباً على الجميع، ما قد يدفع الولايات المتحدة فعلياً لإعادة ترتيب الأولويات فيما يتعلق بالوجود الأميركي في الخليج فمن سيحمي من؟ ماذا لو تشكلت فعلياً قوة بحرية مشتركة من دول الخليج العربي لحماية الأمن في هذه المنطقة؟
في إيران قد لا يبدو مرور الاتفاق معضلة تحديداً أن ما احتفظت بهِ إيران من مكتسبات يجعل منها قوة نووية بمعزلٍ إن كان هناك قرار بتصنيع القنبلة أم لا، أما إعادة ترتيب الأولويات الأميركية فسيدفعها أولاً لعدمِ خسارةِ إيران بعد تلاشي أسباب الصدام معها هذا إن كان هناك أساساً نية أميركية للصدام العسكري مع إيران، بالتالي لن تكون هناك صعوبات داخلية بتمرير الاتفاق تحديداً أن السياسة الأميركية تعرف كيف تدير انكساراتها، لكن تبقى فقط قدرة الولايات المتحدة على إقناع الكيان بهذا الاتفاق وهنا نبدو أمام احتمالين:
الاحتمال الأول: يكاد يكون شبه مستحيل بأن ترفض قيادات الكيان الاتفاق وتسعى فعلياً لتوجيهِ ضرباتٍ عسكرية للبرنامج النووي الإيراني، ربما أن هذا الاحتمال لا يستحق حتى مجرد إضاعة الوقت بالحديث عنه فلا الكيان سيهاجم إيران ولا إيران ستهاجم الكيان.
الاحتمال الثاني: أن الكيان الصهيوني يعرف تماماً أنه بحاجةٍ لهذا الاتفاق أكثر من إيران والولايات المتحدة، بل قد نذهب أبعد من ذلك إن قلنا إن هذا الاتفاق قد يكون في حسابات قادة العدو تحجيم لإيران أو لنقل أشبه باتفاق «عدم اعتداء» غير مباشر، هذا الاحتمال يبدو أكثر قوة بمعزلٍ عما سنسمع من تصريحات تلي الاتفاق من جميع الأطراف التي ستقدم نفسها منتصرة، لكن الحقائق التي لا يمكن المساس بها أن التوافق مع الولايات المتحدة يعني أولاً وأخيراً عدم المساس بمصالح الولايات المتحدة، إلا إن لم تعد إسرائيل مصلحة أميركية فماذا ينتظرنا؟
ببساطة دعكم من كل التصريحات التي ترفع النبرة هنا وهناك الجميع متفق بأن الوقت لم يحن بعد لإفناء البشرية، ارفعوا كؤوس الدبلوماسية واشربوا نخب التوافق على جميع الجبهات.