قضايا وآراء

«هيئة التفاوض العليا».. جيل جديد ولبوس كذلك

| عبد المنعم علي عيسى

مرت مكونات المعارضة السورية بشكلها المتبلور منذ اندلاع الأزمة السورية ربيع العام 2011، بمحطات عدة، فيما الانتقال من محطة إلى أخرى كان فعلاً ذي أسباب هي في جلها خارجية، إذ لطالما كانت تركيبة كل تلك المكونات، مع استثناء وحيد هو «هيئة التنسيق الوطنية»، تحوي في دواخلها ما يشبه «اللوبي» الذي يمثل ورقة ضغط لهذه الدولة أو تلك، حيث الارتباط هنا ما بين هذا الأخير وبين «الرحم» الذي يمده بأسباب الديمومة والاستمرار، يعود لرزمة من العوامل لا يمكن اختصارها بالتمويل، وإن كان ذاك عاملاً هاماً في تلك الرزمة، الأمر الذي يشكل ظاهرة تحتاج للمزيد من البحث والتدقيق للوصول إلى تشخيص صحيح لها بعيداً عن «التخوين» والرمي بشتى صنوف الاتهامات من دون أن يعني ذلك خلواً تاماً لفعل كهذا ظهر في بعض الحالات الفردية التي سطع نجمها ثم خبا سريعاً، ما يشير إلى عدم تجذر تلك الحالات، ويشير أيضاً إلى ظاهرة «صحية» استطاع الجسد من خلالها لفظ «أجسام غريبة» أرادت الشد به إلى مطارح مرضية تهدد بالفتك المتدرج بأجهزته المسؤولة عن دوام حركته.

تأسست «هيئة التفاوض العليا» شهر كانون الأول من العام 2015 أي بعد مضي أشهر عدة على صدور القرار 2254 حيث ستكون المهمة المنوطة بها هي الإشراف على العملية التفاوضية ما بين «المعارضة» والحكومة السورية إنفاذاً لما ورد في القرار سابق الذكر، لكن تقاسم الحصص ما بين مكونات المعارضات سرعان ما عانى من «التململ» الذي راحت حالة الاستقطاب الدولية والإقليمية تستولده فتفرض عملية إعادة التوزيع من جديد، الأمر الذي حصل شهر تشرين ثاني من العام 2017، واللافت هنا أن التغييرات ما بين الطبعتين، طبعة كانون الأول 2015 وطبعة تشرين ثاني 2017، لم يكن مردها لتغييرات في الثقل أو التمثيل وإنما كان يمثل بالدرجة الأولى تعبيراً عن تصاعد دور إقليمي، أو دولي، على حساب دور آخر، وبين هذا وذاك كانت السيرة الذاتية لـ«الهيئة» تسجل في سفرها جموداً ما بين هذا التاريخ الأخير وبين مطلع حزيران من العام الحالي الذي أنبأت الشهور التي سبقته من هذا العام بتحولات إقليمية كبرى من النوع الذي يهدد بقلب الصورة رأساً على عقب.

هذه التحولات سابقة الذكر كانت وراء اجتماع «هيئة التفاوض العليا» بجنيف الذي استمر لثلاثة أيام، وكانت قد بدأت يوم 3 حزيران الجاري، فيما حصيلة النتائج كانت تتمحور حول واحدة أساسية تتمثل بإنهاء حالة السيطرة المطلقة لـ«الائتلاف المعارض» بعد أن استطاع هذا الأخير الاستحواذ على قرارها خلال الأعوام السابقة بدرجة لربما تفسر إلى درجة كبيرة التعثر الحاصل في اجتماعات «اللجنة الدستورية» على امتداد جولاتها السابقة قبيل أن تتوقف شهر حزيران الماضي، بل إن فعل الاستحواذ نفسه كان قد قوبل برفض العديد من القوى المنضوية تحت راية «الهيئة» حتى إن بعضها كان قد فضل الانسحاب من دون ضجيج، واللافت هنا هو أن المملكة العربية السعودية، التي شكلت راعياً أساسياً لـ«الهيئة» منذ نشوئها، كانت قد غابت عن «الولادة الجديدة» لهذه الأخيرة في جنيف، ما يشير، جنباً إلى جنب لمؤشرات أخرى، إلى معطى هام هو أن الرياض ماضية في مسارها الذي تغذ الخطى فيها تقارباً مع دمشق على الرغم من «عدم الرضا» الذي راحت واشنطن تبديه حيال الخطوات السعودية، وعلى الرغم من الموقف الأوروبي الذي كان إلتحاقياً بموقف واشنطن، وإن ظهرت هناك بعض التمايزات لدى هؤلاء.

في مطلق الأحوال شكل اجتماع «هيئة التفاوض» في جنيف منعطفاً، هو الثالث، في بنيان هذه الأخيرة على الرغم من أنها لم تتم بعد ميلادها الثامن، والفعل أيضاً هذه المرة كان نتيجة لضغوط عديدة مارستها دول فاعلة في الملف السوري والكثير منها كان بادياً على السطح مما تنظره العين بوضوح، فيما المرامي التي قادت لـ«ترميم» البيت الداخلي وإعادة رسم توازناته من جديد، تشير إلى أن الفاعلين، والقيمين على الفعل، يهيئون أنفسهم لمرحلة مقبلة من المتوقع أن تشهد استئنافاً لعمل «اللجنة الدستورية» التي يجهد المبعوث الأممي غير بيدرسون لتنشيط عملها من جديد، ومن الممكن هنا رصد حال من «التفاؤل» راح يشيعها هذا الأخير في مطارح عدة إبان لقاءاته التي توسعت مروحتها لتشمل طيفاً واسعاً من «الأقطاب» ذات التأثير المفترض في مسار تلك «اللجنة»، على الرغم من العقبات التي تعترض فعل التنشيط آنف الذكر فتجعل من حال «التفاؤل» فعلاً «مبالغاً» فيه، وفي الذروة منها أن اجتماع «الهيئة» في جنيف لم يستطع حسم مسألة هامة تتمثل في المكان الذي ستعاود منه «اللجنة» اجتماعاتها من جديد، الأمر الذي شكل عقدة يصعب تجاوزها، كما يبدو، منذ حزيران الماضي.

في المقابل تسعى واشنطن عبر أذرعها المتمددة هنا وهناك لعرقلة مسارات التسوية السورية تارة عبر «منظمات المجتمع المدني» السورية التي عقدت في باريس يومي 5 و6 حزيران الجاري مؤتمراً موسعاً لها بإسناد لوجستي فرنسي وأميركي كما أعلنت مبادرة «مدنية» التي لعبت دور «الدينمو» في ذلك الحراك، وتارة أخرى عبر التلوينات التي حملتها النسخة السابعة من مؤتمر «المانحين» الذي انعقد مؤخراً في بروكسل.

ما يلاحظ الآن على طبيعة النهج الذي تتبعه واشنطن حيال مسار التسوية السورية هو أنها لا تريد نسفها من جذورها لكنها تريد تشكيل آليات ضغط عليها لقولبتها في مسارات محددة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن