ثقافة وفن

الفنانة التشكيلية دعاء البسطاطي: الرسم بالقدمين

| نبيل تللو

لكن من لطف اللـه بعباده أنه لا يحرم إنساناً من كلِّ قدراته ما دام على قيد الحياة، فلا بدَّ لمن حُرم من شيء من هذه القدرات أن يتبقَّى له الكثير منها، فإذا أُتيحت له الظروف المؤاتية، أمكنه تعويض ما اعتراه من نقصٍ أو عجزٍ باستثمارٍ يمكِّنه من القيام بدورٍ فعَّال يفيده ويفيد المجتمع.

وهذا في الحقيقة هو ما نعرفه من التاريخ، ومن أخبار المعوقين في عصرنا الحاضر. فتاريخنا العربي الإسلامي، والإنساني عامةً، حافلٌ بأخبار المعوقين الذين لم تمنعهم إعاقتهم عن العطاء للمجتمع في جيلهم، بل استمرَّ عطاؤهم لما تبعه من أجيال. ولعلَّ أشهر هؤلاء هم المكفوفون الذين نبغوا في صنوف الأدب وفروع العلم، عميد الأدب العربي طه حسين نموذجاً، وهناك غير المكفوفين ممن ابتلوا بإعاقاتٍ مختلفة، وحفل التاريخ بجلائل أعمالهم.

هذه الخواطر والأفكار تداعت إلى ذهني بعد زيارتي إلى معرض الفنانة التشكيلية «دعاء البسطاطي»، الذي أُقيم خلال الفترة 4ــ8/6/2023 في المركز الثقافي العربي/أبو رمانة، وضمَّ 35 لوحة فنية، وهذا هو معرضها الخامس في هذا المكان، لكنَّ الفنانة ليست كالآخرين، والمعرض ليس كالمعارض الأخرى، فدعاء البسطاطي خُلِقَت من دون يدين سنة 1991، لكنَّها بمساعدة أختها الكبرى، التي أحضرت لها صوراً ورسوماً كرتونية، وطلبت منها أن ترسم ما يشبهها بقدمها، ومع التدريب المستمر استطاعت التحكُّم بقدمها، ليس الرسم فقط، وإنَّما ممارسة مختلف أمور المعيشة الأخرى، انطلاقاً من فكرة أن عدم وجود يدين لا يعني الاستسلام أمام مشيئة القدر، بل كانت انطلاقة نحو طريقٍ جديد مشت عليه بكلِّ صبرٍ وأناة.

وبانتسابها إلى مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية بدمشق، صُقِلت موهبتها، وبالتحاقها بكلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، تأهَّلت للحصول على الإجازة في الفنون الجميلة سنة 2014، ولتبدأ بممارسة الرسم، ليس على الورق فقط، بل على الزجاج والحرير وغيرهما، متأقلمة مع واقعها، بعزيمةٍ كبيرة، وإصرارٍ لا يفتر، ما يُعَدُّ أكبر تحدٍّ لظروف الحياة القاسية، ولتنقل للعالم رسالة مفادها أن المستحيل غير موجود مع العزيمة والإصرار.

وقلت إنه معرضٌ ليس كبقية المعارض الفنية، فلوحاته كلها لوجوهٍ من مختلف فئات المجتمع، وكلها واضحة المعالم والتفاصيل، إلى درجة أنني لا أبالغ إطلاقاً بقولي إن الوجه يكاد ينطق ويبادلك التحية والسلام. والأكثر من ذلك هو أن كلَّ لوحةٍ قد ذُيِّلت بشرحٍ بقلمها يستحِقُّ الوقوف عنده وإبداء الإعجاب ببليغ العبارة وقوة المضمون، وقد اخترت بعضاً منها:

ــ صرخة الحياة: يوم ولادتي بدأ موتي مسيرته، إنها تمشي نحوي من دون أن تسرع.

ــ عازف الكمان: ونحن أيضاً كالكمان بحاجةٍ إلى كتفٍ نتكئ عليه.

ــ طفل التوحُّد: التوحُّد ليس خياراً، بل هو قبول تخيُّل لو أن العكس هو الصحيح.

ــ ذوو الهمم: ليس العاجز الذي يحمل العصا، بل العاجز من لا يستطيع تحدِّي الحياة.

ــ تُروى القصة بالصمت بالمقدار نفسه الذي يرويها فيه الكلام.

ــ دمعة أمل: أن دموع الطفل أشدّ إيلاماً من دموع الرجال.

ــ دميتي: أتكلم مع دميتي لساعاتٍ طويلة، فهي كلّ ما تبقَّى لديَّ.

ــ الإخوة: هم الدعامة التي نستند إليها في الحياة، ونهرب إليها في الأوقات الصعبة.

ــ وجع القلب: الفنان أيمن زيدان: هل لي أن أصطنع الفرح وأنا بكلِّ هذه الظروف السيئة. (وهذه اللوحة هي الوحيدة لشخص معروف).

ختاماً أقول: ليست هذه المقالة للتعريف بالفنانة فقط، وإنَّما للفت النظر نحو الأخذ بها نحو العالمية، من قبيل تسجيلها في كتاب غينيس للأرقام القياسية، فنحن أمام ظاهرةٍ فريدة، ولعلَّ وزارة الثقافة، ممثَّلةً بمديرية الفنون الجميلة، هي الأجدر للقيام بهذا العمل، بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن