قضايا وآراء

«منظمات المجتمع المدني».. محاولة لملء الفراغ

| عبد المنعم علي عيسى

العام 2006 عبر بيان أشار إلى أنها «مؤسسة خيرية تركز في عملها على بلاد الشام والمملكة المتحدة من أجل بناء مجتمع مدني كي يصبح قادراً على قيادة التغيير الإيجابي»، ثم تطورت على وقع حالة الاحتياج الغربي والتلونات التي راحت تتخذها السياسات الغربية تجاه الأزمة السورية لتطلق تلك المؤسسة في العام 2021 مبادرة سميت بـ«مدنية» التي قال رئيس مؤسسة «الأصفري» ومطلق المبادرة أيمن أصفري في شرح رؤيته لعملها: إنه «يعتقد أن منظمات المجتمع المدني تتمتع بقدرة فردية على سد الفجوة بين الشارع السوري والكيانات السياسية القائمة فيه»، وعلى الرغم من أن القيمين على «المبادرة» والذين ينشطون من خلالها راحوا يركزون على طبيعة العمل الاجتماعي الثقافي مع التركيز على التخفيف من أثر «السياسي» في ذلك النشاط، إلا أن الفعل من حيث النتيجة كان يندرج في «أحشاء» السياسة وفي أعماقها، بل ولربما يمكن الجزم بأن ذلك النشاط كان ما «فوق» السياسي، فمن المؤكد أن السياسة، بكل ممارساتها وكياناتها، ليست إلا انعكاس لحقائق اقتصادية واجتماعية التي تعمل «مدنية» من خلالها على إحداث تغييرات ذات طبيعة ثقافية في المجتمع المستهدف، والشاهد هو أن أولئك القيمين والناشطين داخل هذه الأخيرة راحوا منذ بداية العام الحالي يعلنون أن مراميهم الأبعد «باتت تطول العمل بالشأن السياسي» وفقاً لما ورد على لسان نائب رئيس مجلس إدارة «مدنية» آمنة خولاني، في إحدى مقابلاتها الصحفية، ليخرج الأمر بعد ذلك إلى مطارح سياسية ذات مستوى تنظيمي عالٍ مما ظهر في «اجتماع باريس» يومي 5 و6 حزيران الجاري والذي قيل إنه ضم ما يزيد على 150 منظمة تنضوي تحت مسمى «المجتمع المدني» مع الإشارة إلى أن عدد المنظمات الفاعلة، أو التي تقوم بعمل مؤثر، ضمن هذا الرقم لا يزيد على عدد أصابع اليدين بينما أريد الزج بالباقي لإخراج مشهد بتقنية يراد من خلالها القول إن الوزن الذي تمثله «منظمات المجتمع المدني» بات من الصعب تجاهله، وأن «صوتها» يجب أن يسمع.

واقع الأمر هو أن «اجتماع باريس» كان قد انعقد بدعم لوجستي ومالي قدمته السلطات الفرنسية وفقاً لما أعلنته صراحة مبادرة «مدنية» التي تزعمت الدعوة لذلك الاجتماع، والفعل يندرج أساساً في سياق نظرة غربية ترى أن دعم وتنشيط تيارات تتسم بميلها لمفاهيم وأفكار وقيم الغرب داخل المجتمع السوري أمر من شأنه أن يساعد في قولبة هذا الأخير ووضعه في سياقات تدريجية يمكن أن تفضي لاحقاً إلى مجتمع جديد قد لا يشبه كثيراً ذلك القائم الآن في توجهاته وأنماط تفكيره، وكنتيجة لا يشبه أيضاً طرق معالجته لقضاياه الراهنة، لكن من دون أن يعني ذلك أن البعد الخارجي هو جدار الاستناد الوحيد لتلك التيارات التي يمكن إدراجها كلها تحت عنوان عريض يطلق عليه «الليبرالية»، والشاهد هو أن ثمة تيار «ليبرالي» يمكن لحظه داخل النسيج المجتمعي السوري بدءاً من سقوط «المعسكر الاشتراكي» العام 1989 الذي عنى للكثيرين سقوطاً للإيديولوجيا، ثم راح ذلك التيار يتنامى على وقع الأحداث التي تمر بها المنطقة والعالم حتى إذا كان سقوط بغداد 2003 أضحى ذلك التيار كصحن يحتوي على «منقوع السكر» الذي يغري الكثيرين بالتذوق، وما جرى هو أن المرحلة التي تلت هذا الحدث الأخير كانت قد شهدت انزياحات لشرائح واسعة كانت تنتمي لخلفيات ماركسية ويسارية بل وبعضها قومي أيضاً، صوب «محدلة» الليبرالية الأمر الذي سيتصاعد فيما بعد على وقع أحداث «الربيع العربي»، الذي كانت كبرى تداعياته في الحالة السورية هو وصول الأحزاب السورية إلى حال من الترهل باتت أحوج ما تكون لإعادة «تأهيل» سواء أكان ذلك لجهة برامجها وطروحاتها أم لجهة كوادرها التي باتت تعاني من عطب «مناظيرها» التي تستخدمها لكشف الرؤيا في «أوقات الضباب» أو عشية ديمومة «طقس سديمي» مترافق بالكثير من الغبار، وكنتيجة لما سبق، كشفت الساحة السياسية السورية عن مساحات فراغ بدت مشجعة للعب الكثيرين فيها.

تشير محاولة تنشيط منظمات «المجتمع المدني» راهناً إلى لحظة تلاقٍ سياسية ما بين «خارج» يرى فيها ذراعاً، أو تمدداً ثقافياً له يمكن من خلالها تحقيق مكاسب لن يستطيع تحقيقها في ظل التوازنات الداخلية القائمة، وبين «داخل» ليبرالي بات مؤمناً بـ«موت الأحزاب» ووجوب «ملءِ الفراغ» الناجم عن موتها، ولكي نكون منصفين فلا نذهب فقط إلى التركيز على «حبال المشيمة» التي تربط هؤلاء بـ«أرحام» الغرب، تجب الإشارة إلى أن التحولات الاقتصادية التي شهدتها البلاد منذ أواخر التسعينيات من القرن الماضي كانت قد لعبت دوراً وازناً في تنامي تيار «الليبرالية» الذي أضحى من القوة حيث لا يمكن تجاهله، فـ«اقتصاد السوق» الذي راح يغذ مساره صعوداً بدءاً من مطلع الألفية الراهنة كان لا بد له أن يرخي بظلاله على الخريطة المجتمعية والسياسية طال الوقت أم قصر، والمؤكد هو أن تيار «الليبرالية» آخذ بالتمدد بين ثنايا وأحشاء المجتمع السوري مما يظهره خطه البياني الصاعد بسرعة توازي تلك التي يرسمها الخط البياني الانحداري لجل الأحزاب، وبسرعة توازي أيضاً تلك التحولات الاقتصادية التي أخلت بقواعد كانت راسخة منذ ستينيات القرن الماضي عندما ألقت الدولة بأثقالها لدعم شرائح واسعة من المجتمع، فباتت عبر ذلك الدور «معيلهم» الأساس الذي لا مناص من الاتكاء عليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن