من دفتر الوطن

المدينة الخالدة

| حسن م. يوسف

«أنا لا أصدق سوى الإحصاءات التي زورتها بنفسي». أتذكر قول السياسي البريطاني ونستون تشرشل هذا كلما طالعتني وسائل الإعلام الغربية بأحد إحصاءاتها المثيرة، خاصة تلك التي تتعلق بسعادة وتعاسة بلدان العالم وأقلها وأكثرها صلاحية للعيش!
قبل نحو ثلاثة أشهر قامت شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة بنشر تقريرها السنوي عن السعادة في دول العالم، وقد غطى تقرير العام الحالي 137 دولة من مختلف القارات، لكن الشبكة احترمت نفسها ووضعت تسع دول عربية خارج التصنيف وعلى رأسها بلدنا سورية. وفي يوم الأربعاء الماضي 21 حزيران، أصدرت وحدة المعلومات الاقتصادية في مجلة «الإيكونيميست» البريطانية، مؤشر أكثر مدن العالم ملاءمة للعيش في عام 2023، حيث صنفت عاصمة بلادنا دمشق في المرتبة الأخيرة كأسوأ مدينة في العالم- للمرة العاشرة- وفق مقاييسها لجودة العيش! تلَتْها العاصمة الليبية طرابلس ثم عاصمة نيجيريا لاغوس، فالجزائر العاصمة.
أما المدن التي يطيب العيش فيها حسب وحدة المعلومات الاقتصادية في مجلة «الإيكونيميست» البريطانية، فتأتي في مقدمتها فيينا للمرة الرابعة خلال السنوات الخمس الماضية، وتحل بعدها كوبنهاغن، في المرتبة الثانية. تليها مدينة ملبورن الأسترالية في المرتبة الثالثة.
صنفت وحدة المعلومات الاقتصادية هذه، صلاحية العيش في 172 مدينة حول العالم، بناء على أكثر من 30 عاملاً، مقسّمة إلى فئات، هي: الاستقرار، الرعاية الصحية، الرقابة، الثقافة والبيئة والتعليم، البنية التحتية، ووسائل الترفيه.
ما لفت نظري هو ردود فعل الإخوة السوريين إزاء هذا الأمر، فالأكثرية الساحقة عبرت عن ألمها لما جاء في مؤشر الإيكونيميست، ومعظم هؤلاء عبروا عن غضبهم لما آلت إليه الأمور في بلادنا، والشيء الجيد هو أن طروحات الموتورين القلائل الذين حاولوا استغلال الوضع سياسياً وتحميل السلطات وحدها مسؤولية الأوضاع الراهنة، لم تلق الكثير من الآذان المصغية. إلا أن أحد هؤلاء استخدم ما جاء في مؤشر الإيكونيميست كي يحذر النازحين من التفكير بالعودة إلى وطنهم بسبب تردي الأوضاع المعيشية وعدم توفر مقومات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار وتدني دخل الفرد… إلخ
في عام 1872 قام مارك توين أعظم كاتب أنجبته أميركا، بزيارة دمشق كمراسل لإحدى الصحف، وهذه ترجمة لمقطع مما قاله عنها في كتابه «الأبرياء في الخارج»:
» بالنسبة لدمشق، السنوات مجرد لحظات، والعقود ليست سوى هنيهات من الزمن. إنها لا تقيس الوقت بالأيام والشهور والسنوات، بل بالإمبراطوريات التي رأتها تنهض وتزدهر ثم رأتها تنهار. إنها نوع من الخلود. رأت أسس بعلبك وطيبة وأفسس. رأت هذه القرى تنمو لتصبح مدنًا عظيمة، تذهل العالم بعظمتها، وقد عاشت لتراها مقفرة ومهجورة متروكة للبوم والخفافيش. (…) رأت اليونان تنهض وتزدهر لألفي سنة ثم تموت. في شيخوختها رأت روما تبنى. وتلقي على العالم ظلال قوتها. ثم رأتها تموت. رأت جنوة والبندقية تعيش مئات السنين من القوة والروعة، لكن ذلك لم يكن بالنسبة لدمشق سوى وميض ضئيل لا يستحق التذكر. شهدت دمشق كل ما حدث على الأرض وما زالت حية. لقد نظرت إلى العظام الجافة لألف إمبراطورية، وسترى مقابر ألف إمبراطورية أخرى قبل أن تموت. ثمة مدن أخرى تدعي لنفسها هذا الاسم، إلا أن دمشق القديمة هي المدينة الخالدة بحق».
تحية لدمشق الخالدة ولمن لا يطيب لهم العيش إلا فيها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن