قضايا وآراء

الهوية والمواطنة ومستقبل سورية

| مازن جبور

شهدت سورية عقداً ونيّفاً من القتل والدمار والتهجير والتغيير الديموغرافي، جرّاء انتشار الميليشيات المسلحة، والتنظيمات الإرهابية، والتدخلات الإقليمية والدولية السافرة، والعقوبات والحصار الاقتصادي، وما سبق ذلك من حالة ركود سياسي في البلاد، ما أصاب بُناها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالعطب، الأمر الذي يفرض على جميع السوريين، نبذ جميع خلافاتهم وصراعاتهم أيّاً كان نوعها وحجمها، والبدء بالعمل المشترك لوضع الأسس الكفيلة بخلق مسارات وطنية، كالاتفاق على هوية وطنية واحدة وتحقيق مواطنة فاعلة، بهدف مجابهة الوضع القائم، والانتقال إلى مرحلة جديدة قادرة على تأطير القوى المجتمعية المتنوعة للنهوض من جديد.

فالحالة الطبيعية، تعد مثالاً افتراضياً عن مجتمع كان قائماً وانتهى، ومن ثم فإن القصد منها نقد المجتمع القائم وتقديم مشاريع لإصلاحه، لذلك فإن الكلام عن عقد اجتماعي جديد ليس معناه أن المجتمعات قد عادت إلى الحالة الطبيعية وفق ما وصفها هوبز بعبارته الشهيرة: «حالة حرب الكل ضد الكل»، وإنما مفهوم العقد هنا بتعبير الباحث غسان سلامة هو «أنه أمام البشر الملتقين في جماعة ما، إمكانات مختلفة يختارون بينها لتنظيم الشأن العام، وأن المؤسسات القائمة هي بطريقة أو بأخرى، نتاج لخيار أساسي تم في لحظة معينة من التاريخ»، وهذا يعني أن العقد الذي يتم تجديده، يتم ذلك في مجتمع شاب تعرض نظامه للخلل لمجموعة من الأسباب، ولا بد من عقد جديد يعيد النظام ويطوره بما يجعل منه قانوناً محترماً من المجتمع.

وبالنظر إلى التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي طرأت على سورية والعالم منذ بداية الألفية الثالثة، نجد أنها تحولات مهولة، على صعيد الكم والنوع، لم تستطع القنوات السورية القائمة ضبطها وإدارتها بالمستوى المطلوب، وساهمت الحرب في تعميق الفجوة الحاصلة على هذا الصعيد، لذلك فإن أولى الخطوات في هذا الاتجاه هي تحديد نقاط الخلل وتوصيف حالة الفوضى، التي لحقت ببنية الدولة السورية، ومن ثم اقتراح الحلول لها.

بناء على ما سبق، تمثل مسألة تجديد العقد الاجتماعي السوري ضرورة ملحة للخروج من الأزمة التي تعيشها البلاد، فهذه الحرب كشفت عن خلل في الهوية والمواطنة، الأمر الذي يدعو إلى البحث في ضرورات تجديد العقد الاجتماعي، وإيجاد الآليات المناسبة لتعزيز قيمهما في مواجهة مجموعة من المظاهر التي برزت خلال الحرب وشكلت ضرباً لهما، منها الفساد والهجرة واللجوء والتضخم وعدم احترام القانون، وضعف الحياة السياسية، وغيرها من الأسباب التي أدت إلى إضعاف ركائز المجتمع السوري، بالإضافة إلى جملة من عوامل خارجية وإقليمية أسهمت بشكل أو بآخر في تأجيج حالة العنف.

لقد أظهرت الحرب أنه يطغى على بعض السوريين مشاعر الولاء أكثر من مشاعر الانتماء، فكان بعضهم سوري الانتماء بالولادة، لكن ولاءه لتكوين قبل وطني أو فوق وطني أو لجهة غير سورية، وهذا هو واقع جزء من السوريين في زمن الحرب، بالإضافة إلى مظاهر خلل أخرى في الهوية، ومن ثم فإن أي تعريف للهوية الوطنية السورية، يجب أن يقوم على أساس الجامع، الذي يضمن ولاءه وانتماءه إلى قيم المجتمع ومبادئ الدولة ويلتزم بها، ويعمل على مبادلتهم الرعاية والحماية.

وبناءً على ما سبق فإن الحل لتشتت الهوية السورية، يكون في البحث عن مسببات التطابق بين الانتماء والولاء، بحيث ينحو كل منهما المنحى ذاته، وهذا يتم بتمتّع السوري بثقافة مواطنيّة، تمكنه من تثبيت ولائه وانتمائه للدولة السورية، ونظراً لأن الهوية تحمل جانباً متغيراً، فإن وعيها، يتطلب العمل باستمرار على إحراز تقدم يمكننا من تحقيق السيرورة لهويتنا، ويدفع إلى التمسك بالانتماء والولاء لهوية وطنية واحدة.

كذلك تنشأ المواطنة وتنمو في إطار من سيادة القانون واحترام الإنسان وحقوقه، ولابد من ضمانات تمكّن من ممارستها فعلياً، بما يحقق العيش المشترك ضمن المجتمع الواحد والبلد الواحد، وعليه فإن تحقيق ثقافة العيش المشترك التي تحظى بالإجماع من قبل أفراد الجماعة الوطنية كافّة، وتؤسس لإيجاد الفرد المواطن الذي يسمو لديه الولاء للجماعة الوطنية على حساب الولاءات الأخرى سواء أكانت عرقية أم قومية أو دينية أو قبلية أو عشائرية أو غيرها، تتم من خلال عدة طرق أبرزها تعزيز ثقافة المواطنة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن