ثقافة وفن

الحياة الاجتماعية في البيت الدمشقي القديم

| أنس تللو

ترتبطُ الحياة الاجتماعية في البيت الدمشقي القديم بجمال وروعة البيت، فهو يشبه الجنة لما يحتويه من قاعات وباحات فسيحة، تظللها عرائش الياسمين والورد.

وإن أول ما يلفت النظر في البيوت الدمشقية القديمة أنها متكئة على بعضها بعضاً، وكأنها تروي العلاقات القديمة الأصيلة والحميمة؛ ذلك أن أسلوب تصميم البيت كان يحيي حياة اجتماعية فريدة، باب خشبي صغير، يوحي بالتواضع الكبير، وتخالُ أنك ستجد وراءه خاناً صغيراً؛ ولكن ما أن تدخل حتى تفاجأ بأنه يفضي إلى صحن الدار، وصحنُ الدار ما هو إلا حديقة غناء ملأى بشتى أنواع النباتات والأشجار والزهور؛ أنواع عديدةٍ من النباتات؛ تتعانق لتظلل البيت بفيء ظليل مريح، تنبعثُ منها رائحة عجيبة ذاتُ فريد، يضاهي أجمل أنواع العطور في العالم؛ إذ هي عطرٌ مزيجٌ من زهر الليمون والكباد مع عبق الياسمين وأزهار المنتور والقرنفل والشب الظريف والورد والجوري.

البنات والحياة

وقد كانت هذه النباتات مرتبطة بالحياة الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً، بل لقد كانت أسماؤها مشتقة من صميم هذه الحياة؛ فهناك نبتة اسمها الساعة، وهي تشبه الساعة، ونبتة التلفون، وهي تشبه الهاتف أيضاً، وهناك نبتة اسمها أصابع العروس وحلقات الست وخد بنت الملك ونبتة السمكة والضراير ونبتة الكولونيا والشب الظريف، ولكل نبتة قصة؛ مثلاً الضراير سميت كذلك لأن أوراقها تبقى دوماً متباعدة متنافرة، لكنها تتقارب وتتضارب كلما هبت الريح… ونبتة ليلة القدر التي تفتِّحُ يوماً واحداً في العام ثمّ تنكمش، ونبتة الغناجة التي تتراجع وتضمر كلما اقتربت منها اليد، ثم تعود للانفراد وحيدة.

الفسحة والسماء

هذا الصحن هو الذي يمد البيت بالنور والهواء والشمس والتهوية دون تلوث، وذلك عن طريق تيار مستمر بين الداخل والخارج، فلا تدخل منه رائحة منبعثة من الطريق كما هو الحال في نوافذ البيوت اليوم.

فضلاً عن ذلك ما أن تدخل إلى صحن الدار حتى تتناهى إلى سمعك رقرقةُ المياه المنبعثة من نوافير شفافة؛ تتراقص فوق سطح بحرة واسعة في وسط الصحن، وفي البحرة تسبح سمكات ذهبية ملونة.

الأسرة الممتدة

وكانت الأسرة الدمشقية أشبه بالقبيلة تجمع الجد والأب والأولاد والأحفاد وزوجاتهم وأولادهم في دار واحدة، وكانت السعادة ترفرف على الجميع، نعيم ومحبة وإيثار، وكان هناك احترام متبادل بين الجميع، الكبير يعطف على الصغير، ويؤثره على نفسه، والصغير يحترم الكبير ويجلُّهُ.

وكان هناك معتقدات خاصة بهم؛ تدخل في صميم الحياة الاجتماعية للأسرة والمجتمع؛ مثل بقجة التنزيلة، عادات رمضان، حمام النفسا، الحناء، الخطبة، والداية، عادات الأعياد، كلاكيب الجنازة، يوم الغسيل.

كان الرجال غالباً ما يقضون سهراتهم في المقاهي للاستماع إلى الحكواتي، أو لمشاهدة فصل من فصول خيال الظل (كراكوز وعيواظ) أو اللعب بالشدة أو الزهر أو الدومينا أو المنقلة.

أما النساء فكنَّ يسهرن في غرفة من غرف المنزل، يتحلقن حول منقل نحاسي، يتقد في وسطه الجمر، ويستضئن بضوء الكاز، ويلعبن البرجيس وأبو الفول وكشف البخت بالفنجان، أو يقمنَ بقص الحكايات أو التباري بالأمثال الشعبية والأقوال المأثورة، وكنَّ خلال ذلك يحتسين أكواب الشاي وفناجين القهوة، ويتناولن الفواكه الطازجة أو المجففة أو المكسرات.

البونُ شاسعٌ وكبير بين تلك الألفة والتفاهم والوصال الذي كان سائداً في البيت الدمشقي القديم وبين القطيعة والتشتت والفراق، الذي جاء بعد ذلك… بين الانسجام والتناغم والمشاركة وبين الانعزال والانفصال والمشاكسة، بين أناس متكاتفين متعاضدين متساعدين؛ لا هم لهم سوى نشر المحبة وطرحُ السعادة، وبين أناس عابسين مقطبين متجهمين هوايتهم نبشُ المشاكلِ وإذكاءُ نار الخلافِ وتأجيج الفتنة.. بين رجال كانوا أشداءَ أقوياء لهم هيبتهم، يحملون في كلامهم قوة ومنَعة، وبين رجال أشباهِ الرجال… بين نساء كنَّ رباتِ منازلَ بجدارة؛ أمهاتٍ مربيات، وبين نساءٍ غدونَ اليومَ أشبهَ بمخلوقاتٍ حائرةٍ بين الجنسين.

الحياة اليوم

بين أناس عاشوا مئات السنين في سعادة ووئام ومحبة واطمئنان، وأناس فرطوا بمشاعرهم وزعزعوا نياتِهِم، وغامروا بمستقبلهم، فخسروا الكثير، ثم أوهموا أنفسهم بأن هذا هو الأفضل.

كانوا يجتمعون على سهرات سمر ممتعة، وعلى موائد طعام لذيذة.

اليوم نحن لم نعد نقوى على العيش معاً ضمن حياة اجتماعية متكافئة ومتماسكة، لقد فُكت تلك العقدة الشديدة التي كانت تجعلنا متلاحمين ضمن أسرة واحدة، تضم الأم والأب والجد والجدة والأولاد والأحفاد والكنائن والحموات.

كان البيت الكبير انعكاساً للنفوس الكبيرة، والنفوس الكبيرة بدأت تنقرض، وغدت تطغى عليها الأنانية المفرطة.

البيت الكبير مثل الحصان الكبير… وكما أن الحصان الكبير لا يمتطيه إلا أصحاب الأجساد الضخمة القوية؛ كذلك البيت الكبير لا يسكنه إلا أصحاب النفوس الكبيرة العظيمة؛ أي النفوس التي تعطي وتمنح وتشارك وتكرم… وأظن أن كل ما يحدث في الطبيعة من تغيير مرتبط بنفوس البشر.

اليوم قد لا يسلِّم الأخُ على أخيه إن هو رآه مصادفة في الطريق، والشجار قد ينشب لمجرد إجراء محادثة هاتفية بين الابن وأمه بوجود الزوجة، لذلك نحن لا نصلح لجو الألفة القديم، وقد حصرنا اللـه في ما نسميه (علب الكبريت) لأن نفوس بعضنا أصبحت أقل حجماً من هذه العلب؛ بعد أن كانت تتسع لجميع الناس.

ما ضاعت تلك البيوت إلا لأن أصحابها ضاعوا، وما صغرت البيوت إلا لأن بعض النفوس قد صغرت.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن