مع جولته التي حملت الرقم 20 كان مسار «أستانا» على مقربة أشهر من أن يتم عامه السادس، ومن المؤكد أن ذلك المسار كان قد استطاع من خلال سنيه المنصرمة تحقيق الكثير على صعيد الأزمة السورية بدءاً من «مناطق خفض التصعيد» ثم وصولاً لتثبيت حال من وقف إطلاق النار بدت صلبة، ولم تغير منها الخروقات الحاصلة، التي راحت تظهر هنا وهناك على خطوط التماس، وإن كان البعض منها قد شكل في مرات عديدة مناخات تهدد بانهيار ذلك «الوقف» حيث تشير الحالة النقيضة، أي عدم حصول الانهيار، إلى متانة التوافقات الحاصلة داخل أطراف المسار الذين أبقوا قنوات الاتصال بينهم مفتوحة مع الإصرار على عدم إغلاقها تحت أي ظرف، وكان الأمر الذي تؤكده سياقات الأحداث الجارية منذ أن أعلن عن انطلاق هذا الأخير يوم 23 كانون الثاني من العام 2017.
عشية الجولة العشرين التي بدأت في العاصمة الكازاخستانية يوم 21 حزيران الجاري كان هناك ملفات ثلاثة على جدول أعمالها، الأول يتعلق بالعملية السياسية في سورية ومحاولة الوصول إلى صيغة محددة بين الحكومة السورية والمعارضة تتيح تنشيط مسار «اللجنة الدستورية» الذي دخل مرحلة «الكمون» منذ شهر حزيران من العام الفائت على خلفية اندلاع الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا، والثاني هو مسودة «خريطة الطريق» التي أعدتها موسكو بالتعاون مع طهران وتمثل بمحاولة لفتح «كل» الأبواب المغلقة بين دمشق وأنقرة، أما الثالث فهو ذو علاقة بالوجود العسكري الأميركي في مناطق الشمال الشرقي من البلاد والذي تنظر إليه كل الأطراف «الضامنة» في أستانا على أنه يعوق قيام تسوية سياسية بين السوريين نتيجة دعمه لشريحة منهم باتت تعرف باسم «قوات سورية الديمقراطية – قسد» منذ أن أعلنت واشنطن عن إنشاء «التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية» العام 2014، ناهيك عن أن الوجود الأميركي، يحرم البلاد من إدارة مواردها التي تتركز النفطية منها في مناطق السيطرة الآنفة الذكر.
في الملف الأول الذي كانت عقدته تتمثل بنقل المفاوضات من جنيف إلى عاصمة أخرى، خاض المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية غير بيدرسون جولات عدة متنقلاً بين هذا الطرف وذاك في محاولة لإقناع الملتقى بهم بأن إعادة تنشيط مسار «اللجنة الدستورية» هو في مصلحة الجميع، والراجح هو أن محاولته باتجاه وفد «المعارضة السورية» كانت قد نجحت في إقناع الأخير بنقل المفاوضات إلى عاصمة جديدة، الأمر الذي يمكن لمسه من خلال حديث أدلى به رئيس وفد المعارضة أحمد طعمة الذي قال لقناة «الحرة»: إن «المعارضة تدرس إمكانية النقل» قبيل أن يضيف إن المرجح الآن هو أن «تحتضنها مدينة عربية، والحديث الآن يدور حول أن تكون مسقط هي تلك المدينة»، وعليه بات من الراجح أن تستعيد «اللجنة الدستورية» نشاطها لكن ليس قبل أن تكون هناك لبيدرسون جولات مكوكية واسعة الطيف من شأنها أن تزيل الكثير من «الصدأ» المتراكم بفعل طول أمد السكون، وفي الملف الثاني، المتعلق بـ«خريطة الطريق» الخاصة بالعلاقات السورية التركية يبدو، وفق المعلن، أن الطرفين تمترسا عند طروحاتهما السابقة، فدمشق ظلت عند مطالبها التي تقول بوجوب أن يكون هناك جدول زمني ومحدد لانسحاب القوات التركية من الشمال السوري إذا ما أرادت أنقرة تطبيعاً كاملاً للعلاقة مع دمشق، أما الموقف التركي فاستمر على حال المراوغة التي ظهر عليها منذ الإشارة التركية الأولى تجاه الأخيرة صيف العام الماضي، فتارة يتحدث الأتراك عن استعدادهم للانسحاب ثم طوراً يستعيدون النغمة القديمة عبر ربط وجودهم العسكري بـ«المخاطر الأمنية»، لكن من الراجح أن ثمة توافقات، غير معلنة، حدثت في هذا السياق مما تشير له التطورات الميدانية في الشمال السوري والتي يشتم منها إمكان تكرار سيناريو الجنوب 2018 في إدلب، أو أقله استعادة الحكومة السورية سيطرتها على معبري «باب الهوى» و«باب السلامة» التي ستؤدي حكماً إلى تقلص المساحة التي تسيطر عليها «هيئة تحرير الشام» بعد انزياحها عن المعبرين السابقي الذكر.
في الملف الثالث تتفق أطراف «أستانا» الثلاثة إلى جانب الحكومة السورية على أن الوجود العسكري الأميركي شرق الفرات هو كبرى المعوقات التي تحول دون استعادة سورية لوحدة أراضيها وسيادتها عليها، وأن ذلك الوجود يمثل أيضاً عقبة، لا تقل أهمية عن الأولى، على طريق عبور البلاد نحو «التعافي المبكر» سواء أكان عبر رزمة العقوبات التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، أم كان عبر حرمان البلاد من ثرواتها النفطية والغذائية، لكن من غير الواضح إذا ما كانت تلك الأطراف متفقة في المنهج وحول الأدوات الكفيلة بزعزعة استقرار ذلك الوجود تمهيداً للضغط عليه وانسحابه، فرسالة أنقرة في هذا السياق التي جاءت قبيل جولة أستانا بيوم واحد تقول إن من الأفضل استهداف «الذراع» التي تستند إليها واشنطن في وجودها غير الشرعي، فيوم الثلاثاء الماضي قامت مسيّرة تركية باستهداف سيارة تقل قياديين من «الإدارة الذاتية» على طريق القامشلي القحطانية ما أدى إلى «تحييدهم» وفقاً لبيان رسمي صادر عن جهات رسمية تركية، على حين أن لطهران ودمشق رأياً آخر، فالأخيرة ترى أن جل مكونات «الإدارة الذاتية» تنتمي للنسيج السوري، وهي وإن «ضلت الطريق» لكن ذلك كان بسبب «خارجي» ومعالجة العلة تكون بمعالجة السبب، والمؤكد هو أن لروسيا نظرة أخرى تتقارب، وتتباعد، ما بين النظرتين السابقتي الذكر لاعتبارات تتعلق بصراعها الدائر راهناً مع الولايات المتحدة والغرب، والذي يشكل رؤية حاكمة لموسكو في محاولاتها لزعزعة استقرار الوجود الأميركي في سورية.
مسار «أستانا» باق كما أعلن المبعوث الروسي الخاص لحل الأزمة السورية، وأهم ما في جولته العشرين هو أنها ضمت اجتماعات «الرباعية» لذلك المسار، الأمر الذي يعني أن هذي الأخيرة ستصبح بمنزلة «المرجعية» لباقي المسارات بما فيها مسار «اللجنة الدستورية».