ثقافة وفن

الفــــــن الســــــريـــالـــي والإبداع

| أنس تللو

حدثنا مُربٍّ فاضل، فقال:

كان لي صديق قديم ـــ رحِمه اللـه ـــ رسَّام فنان مبدع، لكنه لم يكن مكثاراً؛ فلا تعدو لوحاته أن يتجاوز عددها أصابع اليدين، وكانت إحدى هذه اللوحات تتفوق دقة وإتقاناً على الأخريات، قد رسم فيها مائدة قديمة تربَّع عليها صحن كبير من تلك الأكلة الدمشقية القديمة (الفول المُدمَّس)، وكان من شدة إتقانه في اختيار الألوان، وبراعته في إدراج أدق التفاصيل بأجلى هيئة أن يؤخذ الناظر إلى اللوحة مأخذ الدهشة والعجب، حتى إن بعضاً ممن كانوا ينظرون إلى تلك اللوحة البديعة كان يلتفت حوله التفاتة تومِئ بأنه يجول بناظريه بحثاً عن قطعة من الخبز لكي يمد يده إلى اللوحة حتى يتذوق طعم هذا الفول، وينظر، هل طعمه رائع مثل شكله، ولا عجب من ذلك لأن صديقي الفنان قد أنفق حيِّزاً كبيراً من الوقت في معاينة لوحته تدقيقاً وتمحيصاً، حتى إنه قد أجهد نفسه في تحديد القياسات حيث يتطابق حجم لوحته مع الحجم الواقعي الطبيعي ما أمكن ذلك.

تناهى إلى سمعنا في ذاك الوقت أن خبيراً أجنبياً بالمذهب السريالي في الرسم سوف يحضر إلى نقابة الفنانين ليُقام له معرِض يعرِض فيه لوحاته السريالية، وأن حفلاً غير عادي سوف يتم استقبالاً له وترحيباً به، ذلك أن المذهب السريالي كان مازال جديداً على الناس.

حضر الخبير ففُرشت له الأرض وكُرِّم تكريماً فريداً، واحتُفِل به أيّما احتفال، وعرض لوحاته في معرض بديع توافد عليه الفنانون وحداناً وزرافات… ثم انتهى المعرض، ورحل الخبير، فقال الفنان المرحوم صاحب لوحة (صحن الفول) لصديقه المربي الفاضل الذي يروي هذه القصة لنا، لقد لمعت في ذهنه فكرة براقة، فأسرَّها إلى صديقه المربي، واتفقا معاً على تنفيذها.

جاءا بطبق أبيض من الورق المقوى (الكرتون)، وأسنداه إلى الجدار وابتعدا عنه، وراحا يتناوبان في رمي الألوان السائلة عليه، ومازالا يرميان الألوان والطبق يهتز إثر كل رمية كانت تأتيه حتى تجمعت الألوان واختلطت، وبدت للناظر من بعيد وكأنها قد مُزجت بطريقة فنية راقية.

بعد ذلك قام الرسام المبدع وصديقه المربي الفاضل بعملية تزوير مبدعة ؛ فزوَّرا توقيع الخبير الأجنبي، وكان التوقيع دقيقاً حيث يكاد يطابق توقيع الخبير نفسه، ثم جاءا بورق لامع، وغلَّفا فيه اللوحة بأسلوب رائع، ووضعا عليها وردة جميلة، لتظهر بحلَّة جليلة، فبدت وكأنها لوحة أصيلة.

ومن المعروف الشائع أن الناس قد تتسرع في أحكامها، وتُطلق ما في أذهانها، وتضع الأمور في غير مكانها، وكثيرون هم الذين يحكمون على الفرقة الموسيقية من أزيائها وأشكالها وألوانها، قبل أن يستمعوا إلى ألحانها.

أخذ الرسام وصديقه المربي اللوحة المزعومة إلى نقابة الفنانين، وقالا لأحد الفنانين في النقابة إن الخبير الأجنبي الذي كان يعرض لوحاته (السريالية) في النقابة قد التقاهما قبل رحيله ؛ ولاحظ إعجابهما بفنِّه ؛ فأهداهما هذه اللوحة التي رسمها مستوحياً تفاصيلها الفنية من الأجواء البديعة التي أحسَّ بها أثناء فترة إقامته في هذا البلد.

تنادى معظم الفنانين لمشاهدة هذه اللوحة إثر تعطشهم لمتابعة هذا (الفن الجديد)، ثم اكتمل تجمهرهم حول اللوحة، على حين كان الرسام صاحب لوحة «صحن الفول» والمربي صاحب هذه الرواية يقفان جانباً ينظران إلى التهافت الشديد، ويتأملان تدافع الأيدي على تمزيق الغلاف الخارجي للوحة لتصل تلك العيون المتعطشة لهذا الفن السريالي، ثم حضر رجل طويل القامة، نحيل الجسم نحولاً شديداً، يحمل بيده (غليوناً)، وتظهر على وجهه علامات الهيبة والوقار، وطلب وضع اللوحة في مكان عالٍ، ثم بدأ مع الجميع بما يسمى بعملية (التحليل الفني).

وما كان أشد دهشة الرسام وصديقه المربي حين كانا يشاهدان هذا الرجل يشير (بغليونه) إلى أحد الخطوط في اللوحة ويقول: هذا الخط يدل على اتصال الماضي بالحاضر، وتلك البقعة ترمز إلى وحدة الوجود، أمام هذه النقطة الحمراء.

وكان باقي الفنانين يؤيدون كلامه نظراً لوضوح تشابه منهجية هذه اللوحة في الرسم مع باقي لوحات الخبير السريالي، كما قال أحد الفنانين.

لم يتمكن الرسام والمربي من الإمساك عن الضحك بصوت عال، فقال الرسام: (يا جماعة إن هذه اللوحة التي أشبعتموها نقداً وتمحيصاً وتحليلاً ليست من صنع الخبير، وإنما صنعناها نحن بأيدينا، وإن هذه البقع اللونية التي خلبت لبَّكم وأطلقت لسانكم؛ ما هي إلا نتيجة للألوان التي كانت تنهال على اللوحة، حيث كنا نقذف عليها الألوان من مكان بعيد)، فتعجب الفنانون من هذا الكلام، وأجمعوا على عدم صحته، وقالوا له: لا، إن هذه العبقرية لا يمكن أن تكون قد حصلت من هذه الطريقة، فضلاً عن أن توقيع الخبير على اللوحة واضح، وأن هذه اللوحة تحمل أسلوباً فريداً في إبراز المعاني العميقة.

خرج المربي والرسام من نقابة الفنانين وهما في ذهول كبير، وجرى بينهما حديث طويل، خلاصته أنهما أصبحا يتساءلان هل وصلت حالتنا الفنية إلى هذه الدرجة؟

وهل بات من السهل على أي إنسان أن يغدو فناناً تتجمهر الناس حول لوحاته؟!

تابع المربي حديثه قائلاً: أنتم تلاحظون أن أي أمر حين يتطلب إبداعاً حقيقياً، فإن العدد يقل، يظهر في كل خمسين سنة مطرب واحد، أم كلثوم ــ محمد عبد الوهاب، أما عندما تنسحق القواعد الصارمة، وتتلاشى الأطر الفاحصة الدقيقة فإن العدد يكثر، ويصبح من الممكن أن يظهر في كل يوم خمسون مطرباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن