قضايا وآراء

تصعيد في الشمال.. ماذا وراءه؟

| عبد المنعم علي عيسى

أسوة بما حدث قبيل كل جولات «أستانا» الـ19 على مدى ستة أعوام التي كان يسبق انعقادها تصعيداً عسكرياً حتى غدا الأمر تقليدياً، أو هو لازماً لتثبيت مواقع هذا الطرف أو ذاك على طاولة المفاوضات، شهدت مناطق الشمال والشمال الشرقي من البلاد تصعيداً عسكرياً قبيل انعقاد الجولة العشرين يومي 20 و21 من حزيران المنصرم، لكن التصعيد العسكري في الشمال، ظل على زخمه الذي ظهر عليه بعد مرور أكثر من أسبوعين على انتهاء الجولة العشرين، الأمر الذي يشير إلى أن للفعل مرامي أخرى تتعدى التقليدية منها التي نعني بها تسخين الطاولة قبيل أن يجلس إليها المتفاوضون لعل الفعل يضفي على الحوار طبيعة مختلفة أو هو يساعد في «تسليك» ما يصعب تسليكه.

في الأيام التي أعقبت نهاية جولة «أستانا» الأخيرة اتسم القصف بحدة غير معهودة لكن طول أمده، جنباً إلى جنب اتسامه آنف الذكر، قد يشير إلى إمكان تطور الفعل إلى عملية عسكرية واسعة تطول إدلب ومحيطها، والإشارة إياها تتعزز عبر التقارير التي نقلتها مصادر عدة وهي ترصد معلومات عن إرسال الجيش العربي السوري لتعزيزات عسكرية إلى خطوط التماس بالقرب من إدلب وحلب، وفي ذاك يمكن طرح فرضيتين اثنتين الأولى تقول إن الجيش العربي السوري، بالتنسيق مع القوات الروسية العاملة في سورية، قد يقدم على عمل عسكري خاطف يهدف من خلاله إلى استعادة السيطرة على طريق «M4» الأمر الذي كان يجب أن يحدث قبيل ثلاث سنوات بموجب اتفاق «سوتشي» التركي- الروسي الذي لم تلبث أنقرة أن نقضته بذرائع أقل ما يقال فيها إنها أبعد ما تكون عن الدوافع الحقيقية لذاك النقض، والثانية تقول إنه لربما حدثت «مقايضة» في جولة «أستانا» العشرين قوامها أن يستعيد الجيش العربي السوري سيطرته على الطريق سابق الذكر في مقابل أن تتقدم القوات التركية إلى منطقة تل رفعت التي تراها أنقرة ضرورية لتقطيع أوصال «الكانتون الكردي» وفقا للتوصيف الذي تستخدمه وسائل إعلام السلطة التركية.

قد يكون السيناريو الأخير هو الأكثر ترجيحاً قياساً لمعطيات عدة أبرزها أن أياً من الأطراف الثلاثة «الضامنة» لمسار «أستانا» ليس له مصلحة الآن في انهيار وقف إطلاق النار لاعتبارات عدة أبرزها المتغيرات الإقليمية التي تشي بالميل نحو التهدئة وضمان الاستقرار، ومن تلك الاعتبارات، أن النتائج التي قد يؤول إليها فعل التصعيد، في حال حدوثه، لا تزال مجهولة قياساً أيضاً لاعتبارات عدة من بينها المتغيرات الإقليمية آنفة الذكر، لكن ثمة احتمال يظل وارداً وإن كانت نسبة رجحانه ضعيفة، إذ يمكن للتصعيد العسكري الأخير والمتخذ خطاً بيانياً تصاعدياً كما يبدو أن يكون في إطار الرسائل المشفرة ما بين أنقرة وموسكو، ومن خلالها أرادت الأخيرة أن تقول للأولى أن نظام «خفض التصعيد» لم يعد صالحاً في ظل المشهد السياسي المتبلور منذ أيار الماضي فصاعداً، وأن هذا الأخير بات يتطلب صيغاً جديدة أكثر ملاءمة له.

من الصعب الآن المجازفة بتحديد المسار الذي يمكن للتصعيد العسكري الحاصل في الشمال أن يتخذه، أو إلى أين يمكن أن يفضي، فمثل فعل كهذا لا يمكن الجزم به من دون معرفة المواقف، أي مواقف الأطراف الضامنة، من عملية دمج «الرباعية» مع «المسار»، وما نقصده بذلك هو السعي الروسي الذي بدا واضحاً في اجتماع أستانا الأخير والذي هدفت موسكو من خلاله إلى دمج «العسكري» مع «السياسي» الأمر الذي يعني في النهاية خلطاً لمزيج غير متجانس لكن الرهان فيه على «الحاضنة» التي تحتوي شروطاً خاصة تجعل من الاستمرار ممكناً، حيث من المرجح أن تكون أنقرة في وضعية رافضة لفعل من هذا النوع لأنه سيفضي في النهاية إلى خسارتها لورقة لم يحن أوان خسارتها بعد من حيث إنه سيؤدي إلى وضع المعارضة السورية، خصوصاً منها «الائتلاف» المعارض الموالي لها، خارج دائرة التأثير في المسارين السياسي والعسكري للأزمة على حد سواء.

ما يزيد من غموض المشهد، الذي نقصد به دوافع التصعيد العسكري والمآلات التي يمكن له الذهاب إليها، هو أن الاتفاقات التي جرت ضمن إطار «الرباعية» في الـ 21 من حزيران الماضي، ظلت مكتومة حتى إن العديد من المصادر التركية كانت قد ذكرت أن أنقرة لم تبلغ الفصائل المنضوية تحت رايتها بها، وما يعزز ذلك الذكر هو أن البيانات التي أصدرتها تلك الفصائل في أعقاب انتهاء جولة «أستانا» العشرين كانت تتسم بالعمومية وإن كانت سياقاتها تكشف عن مخاوف من نوع أن «الروائح» التي خرجت من هذه الأخيرة ليست من النوع المطمئن لسلامة «الطبخة»، وما يزيد من تلك المخاوف حدة، على ضفة تلك الفصائل، هو الصمت التركي، غير المعتاد، تجاه فعل التصعيد آنف الذكر، والمعتاد منه كان يسجل على الدوام «إدانة» تركية لكل من موسكو ودمشق واتهامهما بنقض اتفاقات «خفض التصعيد» التي دخلت الخدمة على التوالي بدءاً من اجتماع «أستانا» الأول نهاية العام 2017.

وفق السياقات السابقة فإن التصعيد في الشمال لا يعدو أن يكون في أحد إطارين لا ثالث لهما الأول هو أن يكون أحد مخرجات «الرباعية» وبشكل متفق عليه، وثانيهما أن يكون رسالة روسية- سورية مشتركة مفادها أن التوافقات السابقة، التي أخلت أنقرة بمعظمها، عفا عليها الزمن وأن هناك ثمة ضرورة لإيجاد بدائل لها مما تفرضه ضرورات ومعطيات راكمتها المتغيرات الحاصلة منذ زلزال الـ 6 من شباط وما تلاه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن