كتاب «الروضتين في أخبار الدولتين» لأبي شامة.. الحسّ التاريخي المرهف ساعد على تقديم صورة دقيقة للاعتبار بها
| إسماعيل مروة
يعد كتاب «الروضتين في أخبار الدولتين»، لأبي شامة من أهم الكتب وأشهرها، التي أرخت لدولتي نور الدين وصلاح الدين. وما تخللهما من حروب مع الصليبيين، وقد امتاز هذا الكتاب بمنهج واضح، وحسن استخدام للموارد، فأبو شامة بحسه التاريخي المرهف ساق مقتبساته بانسجام جعلها تبدو وكأنها قطعة واحدة من أسلوبه.
بهذه الكلمات يبدأ الأديب المحقق إبراهيم الزيبق مقدمة طبعته الكاملة لكتاب: «الروضتين في أخبار الدولتين» للمؤرخ العلامة أبي شامة- شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المتوفى سنة 665 هـ.
وتشكل هذه الكلمات حافزاً قوياً لمعرفة هذا الكتاب الذي يؤرخ لمرحلة من التاريخ العربي والإسلامي لم تنل حقها من الدراسة والتمحيص حتى يومنا هذا، وجل العناية التي نالتها جاءت من مقالات ودراسات دون العودة إلى النصوص (المصادر) التي تعيننا على الفهم الصحيح السليم..
كما تدفعنا إلى معرفة هذا المؤرخ صاحب الحس التاريخي المرهف، وإلى تتبع منهجه في كتابة التاريخ، ومعرفة نماذج من هذا الكتاب، لنتوقف أخيراً عند جهود المحقق في خدمة هذا الكتاب، وما قدمه لجلو محاسن الكتاب.
قسم أبو شامة كتابه موضوعياً إلى قسمين كما يبدو من العنوان هما:
– الدولة النورية، يستهل أبو شامة كتابه بالحديث عن أخبار نور الدين، ويذكر شيئاً عن زهده وعدله، وورعه، وحسن سياسته، والأشعار التي قيلت فيه كما يعقد فصلاً للحديث عن أصل نور الدين الذي كان جده أحد قادة السلاجقة، ويتحدث عن أبيه عماد الدين زنكي (فاتح مدينة الرها)، ويستفيض في الحديث عن عماد الدين المؤسس الفعلي للدولة، ويذكر فتحه لمدينة الرها سنة 539 هـ، وهي أول ما سقط من إمارات الصليبيين بعد أن استولوا عليها قرابة نصف قرن.
ويستمر في أخبار عماد الدين إلى مقتله أمام قلعة جعبر على الفرات سنة 541هـ ويتابع أبو شامة أخباره إلى أن يصل إلى محمود نور الدين زنكي الذي بدأ بحكم حلب، ثم توسع حتى استطاع أن يكوّن جيشاً قوياً أمام الفرنجة.
ويفصل الحديث عن نور الدين وسياسته التي كانت رامية إلى توحيد البلاد، وذلك بفتحه لدمشق ثم ضمه لمصر، وينهي أخباره عن الدولة النورية بوفاة نور الدين سنة 569 هـ – 1173 م.
الدولة الصلاحية: وبدأ التأريخ لها في أثناء تأريخه للدولة النورية، فقد ذكر ولادة صلاح الدين، والتحاقه مع عمه بالجيش الذاهب لفتح مصر، ثم استقراره في مصر حاكماً منذ سنة 564 هـ – 1168م، ويعرض في الأخبار لسياسة صلاح الدين في توحيد البلاد، ولم شعثها بعد وفاة نور الدين، والوقفة المميزة كانت عند وقعة حطين حيث تهاوت بعدها معاقل الفرنجة، وفتحت بيت المقدس، وذلك سنة 583هـ – 1187 م ويتابع ذكر الأحداث على السنوات حتى وفاة صلاح الدين سنة 589هـ- 1193 م. وتابع بحرقة بالغة بعض الحوادث بعد وفاة صلاح الدين، وكيف انتقل الملك الذي عمل هو، ومن قبله نور الدين عمريهما لتوحيده، إلى أولاد صلاح الدين فضاع وتشتت!!
وأهمية الكتاب تأتي من طول الفترة التي يتحدث عنها وحساسيتها، ومن كثرة الروايات والأخبار المستقاة من أفواه الرجال، ومن تعرضه للنواحي الاجتماعية مع كون الهم السياسي هو الأول، وأهم ما في الكتاب أن أبا شامة يعرض تاريخاً موثقاً لا تدخل فيه المزاجية والأهواء.
مؤلف الكتاب هو: عبد الرحمن إسماعيل المقدسي الدمشقي، المولود سنة 599هـ 1202م بعد وفاة صلاح الدين بعشر سنوات، عايش أواخر الدولة الأيوبية، وبدايات دولة المماليك وتوفي سنة 656هـ-1266م، كان من كبار العلماء في القراءات القرآنية، وكان فقيهاً، وعرف عنه قوته اللغوية، واشتهر بالتاريخ إذ بقي يدوّن ما يراه إلى ما قبل وفاته بأيام وأشهر كتبه (كتاب الروضتين) و(الذيل على الروضتين).
منهج الكتاب
استنبط المحقق المنهج الذي اعتمده أبو شامة في تدوين تاريخه هذا، من خلال النص الذي بين يديه، فرأى مجموعة من الخطوات التي اعتمدها المؤلف في كتابه، والتي تمثلت بـ:
1- الاستقاء من المؤلفات الموثوقة مثل كتاب «البرق الشامي» للكاتب العماد.
2- الاعتماد على الروايات، والأخبار المستقاة من أفواه الرجال الذين عايشوا تلك الفترة.
3- العناية بالشعر في التاريخ للحوادث، وقد أورد كثيراً من الأشعار لابن منير الطرابلسي وابن القيسراني.
4- صياغة الأحداث والروايات بانسجام يجعل الأحداث قطعة واحدة.
والكتاب موسوعي كبير، لذلك اخترت منه نموذجاً واحداً يمزج بين الهم السياسي، والنواحي الاجتماعية، وتوثيق تاريخ المدن للاطلاع على أسلوب الكتاب، ولاستكشاف الجهد الذي بذله المحقق في تحرير النص وإحالته وتوثيقه.
ثم قال أبو يعلى: وشرعوا في قطع الأشجار والتحصن بها، وهدوا الفطائر، وباتوا تلك الليلة على هذه الحال، وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه، والروع بما عاينوه، ما ضعفت به القلوب، وحرجت معه الصدور، وباكروا الظهور إليهم في غد ذلك اليوم، وهو الأحد تاليه، وزحفوا إليهم، ووقع الطراد بينهم، واستظهر المسلمون عليهم، وأكثروا القتل والجراح فيهم، وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاء حسناً، وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره.. 1/187.
النموذج يبين أسلوب هذا المؤرخ الأدبي الشائق، وفي النص أيضاً ما يأخذنا إلى جهد المحقق، وكثيراً ما نخطئ في فهم تحقيق التراث ونشره، فالمحقق لم يترك أي أمر للمصادفة ولم يستهن بأي لفظ، لذلك عاد إلى كل ما يتعلق بتلك الفترة لتكون تفسيراته مقبولة وموثقة، ولم يكتف بالمعاجم اللغوية التي قد لا تسعفه، وقد تلجئه إلى التصحيف والتحريف، ولي عنق النص ليصبح مناسباً للمعنى اللغوي.
وفي هذا النص وردت عبارة: هدوا الفطائر، فيتساءل القارئ أولاً: هل هذه الكلمة صحيحة؟ وثانياً: ماذا يعني بها؟ فينقب المحقق، ويبذل جهداً واسعاً، ليعرف هذه الفطائر.
الفطائر هي جدران ترابية تفصل ما بين بساتين غوطة دمشق، ولعلها سميت كذلك لأن التراب كان يدك بين دفين كبيرين من خشب مثبتين بعوارض خشبية.
ومن خلال فتحاتها كانوا يطعنون برماحهم كل من يحاول العبور من الصليبيين، ويطلق الآن على الجدار منها اسم الدك.
ويردك إلى المصادر التي أسعفته بهذا المعنى، وبعضها غير متداول بين الناس، وعلى هذا اختار المحقق أن يقدم نصاً نقياً تاماً، فكلمة الفطائر هذه قرأها بعضهم القناطر، وجعلها أحدهم الحظائر!! وهنا لابد من الإشارة إلى أن العمل في التحقيق يحتاج إلى عمال صبورين منقبين غير مستعجلين، على عكس ما هو سائد بين الدارسين من عرف بأن العمل في التحقيق أسهل السبل.
وبعد: لا يزال تراثنا المخطوط حبيس الأدراج في المكتبات العالمية، يعاني غربة الوطن وغيرية غياب الباحثين، ينتظر منّا أن ننبشه، وننفض الغبار عنه، لكن بفعل المحققين المجتهدين الذين يبذلون جهودهم لإثراء المكتبة العربية لا غير.