قضايا وآراء

مغامرة «رأس المملوك» يفغيني بريغوجين

| عبدالمنعم علي عيسى

قد يكون من الصعب الآن تشريح ظاهرة «تمرد» يفغيني بريغوجين زعيم «فاغنر» خصوصاً أن المتوافر من المعلومات التي تعرض لتراكماتها ومن ثم انفجارها يومي الجمعة / السبت 23 / 24 حزيران الماضي، يبدو قليلاً، ومن الصعب الركون إلى هذا القليل للحكم على ظاهرة لا مناص من القول إنها أشاحت «الأغطية» عما كان يعتمل في دواخل، ومفاصل، بعض أجزاء نقل الحركة العسكرية التي استولدت حركتها بدءاً من 24 شباط 2022، وهي من دون شك استولدت الكثير من التساؤلات، وفي السياق كان هناك العديد من إشارات الاستفهام التي ظل الكثير منها من دون أجوبة، ولا يمكن بحال من الأحوال الركون لنظرية «رمي الغرب بثقله» كاملا وراء الجيش الأوكراني للإجابة عن تلك التساؤلات على الرغم من صحة النظرية بدرجة لا يدانيها شك أيضاً.

منذ استطاعت القوات الروسية السيطرة على مدينة باخموت، الفعل الذي كان فيه لقوات «فاغنر» دور بارز، خرجت إلى السطح إشارة مفادها أن العلاقة ما بين يفغيني بريغوجين، وبين القيادة العسكرية الروسية ليست على ما يرام، بل إن الأول كان قد اتهم الأخيرة بـ«قصف مؤخرة قواته» التي حررت باخموت، والتصريح يشي بأن الكثير من الجمر لا يزال متقداً تحت الرماد، لكن ما أتاح للجمر أن يذرو الرماد عنه مقرراً الكشف عن درجة حرارته هو القرار الذي اتخذته وزارة الدفاع الروسية يوم 10 حزيران المنصرم، والذي قضى بتوقيع المقاتلين «غير الرسميين»، وجلهم من «فاغنر»، عقوداً مع هذه الأخيرة، كانت تلك إشارة لا يمكن لحسابات بريغوجين أن تخطئ قراءتها إذ لطالما كانت من الوضوح بحيث استنتج الأخير بأن ثمة قراراً يقضي بتجريده من النفوذ الذي يتمتع به داخل مجموعته التي وإن أسست في سياق هو أقرب لحالة الاحتياج التي لم تكن تنحصر فقط بإسناد الجيش عبر عمليات لا يمكن للأخير القيام بها لاعتبارات تتعلق بمنظومة السلوكيات ذات الهوامش التقليدية التي غالباً ما تحدد سلوكيات الجيوش في شتى بلدان العالم، وهي أضيق في حالات الجيوش العظمى التي غالباً ما تكون سلوكياتها محط أنظار منافسيها وكذا تكون «دريئة» سهلة للتصويب عليها إذا ما خرجت عن الهوامش المتعارف عليها السابقة الذكر، نقول على الرغم من ذلك فإنها أسست أيضاً في سياق علاقة شخصية كانت قد جمعت ما بين بريغوجين وبين «قيصر» الكرملين، وفيها من الثقة الشيء الكثير لدرجة قيل فيها إن بوتين كان يأكل من الطعام الذي يعده بريغوجين من دون مرور الطعام عبر «متذوق» وفقاً لما ذكرته صحيفة «الواشنطن بوست» المقربة من جهاز الاستخبارات الأميركية «CIA» عندما كان بريغوجين لا يزال يشغل منصب «طباخ الريس».

كان «ليل بريغوجين» الروسي هو الأطول منذ ليل قائد الانقلاب غينادي ياناييف على آخر رئيس سوفيتي ميخائيل غورباتشوف في 19/20 آب 1991، مع اختلاف الليلين في طبيعته، لكن كلاهما كان كاشفاً لعطب ما في البنيان، فمحاولة الأخير كانت تندرج في سياق «حفظ ماء الوجه» للقوة الروسية ومنع تهاويها، بل لمنع دخول روسيا «عصر الظلمة» الدولية الذي دخلته على يدي بوريس يلتسين وقد امتد لما يقرب من عقد، في حين كان «تمرد» الأول صدى لتعثر أداء الجيش الروسي في «عمليته الخاصة» التي ينفذها بأوكرانيا، ولربما كان أيضاً مؤشراً على صعود تيار «اليمين الشعبوي» الروسي الداعي لانتزاع نصر حاسم في أوكرانيا أياً تكن أثمانه، بل بعيداً عن حساب التوازنات التي تقوم عليها إدارة الصراع عادة، وهو، أي تيار اليمين الشعبوي، يؤيد استخدام «عصا الزانة» للقفز فوقها ولكسر «الرقم القياسي» المسجل باسم الأميركيين الذي لم يستطع أحد تحطيمه رغم مرور 78 عاماً على تسجيله.

كان اللافت في «تمرد» بريغوجين ثلاثة أمور أولها وقوف الغرب على «الحياد» مما أبرزته مواقف جل دوله، وهو موقف فرضته معطيات من نوع ضرورة التبصر في عمق «الظاهرة» قبيل اتخاذ موقف داعم، أو مناهض لها، وثانيها قصر أمده الذي لم يمكن هؤلاء من تقدير تأثيره المباشر على الصراع الدائر في أوكرانيا، ولم يمكن أيضاً من لمس الضرر المفترض الواقع على المؤسسة العسكرية التي تمر بمرحلة حرجة تضعها على ضفاف مخاطر عديدة، أما ثالثها فهو موقف بكين «الصامت» فعلى الرغم من أن «نيويورك تايمز» كانت قد أكدت أن بكين «تملك معلومات استخباراتية مؤكدة حول مخاطر محتملة في روسيا منذ مطلع العام الحالي» إلا أنها، تضيف الصحيفة، لم تقم «بإبلاغ موسكو بما في حوزتها»، ولربما كانت دوافع بكين لسلوكها ذاك هو الخشية من تقدير روسي يفضي للجزم بتدخل صيني «من نوع ما» في الشأن الداخلي الروسي، فمجرد امتلاك أجهزة الاستخبارات الصينية معلومات من هذا النوع يفضي بالضرورة إلى نتيجة مفادها أن بكين ترقب عن كثب أدق التفاصيل التي تجري على الأراضي الروسية لكي تحدد من خلالها خياراتها وتوجهاتها الكبرى، وهو أمر، على الرغم من أنه مؤكد، إلا أنه يضع بكين في موضع محرج أمام حليفها الروسي.

من المؤكد الآن أن موسكو خرجت بأقل الخسائر جراء مغامرة «رأس المملوك» بريغوجين، ومن دون شك سوف تعمد القيادة الروسية إلى ضرب مراكز نفوذ، خصوصاً داخل المؤسسة العسكرية، تلك التي تبدي تبرماً من طول أمد الصراع في أوكرانيا، فمثل اختناقات كهذه، إذا ما تم احتواؤها، تشكل فرصة لقولبة تلك المراكز في سياقات خادمة للرؤيا الإستراتيجية البعيدة من دون العبور، الضروري في الحالات العادية، لشرحها أو الإسهاب في ذلك الشرح.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن