قضايا وآراء

عودة من دمشق.. موجز رحلة

بقلم ميشيل رامبو

عُدت مؤخراً من سورية التي أصابتها الجائحة «الثورية» للربيع العربي في شهر آذار 2011، وشهدت في البداية ولأكثر من سبع سنوات، حتى خريف عام 2018، فظائع حرب معتدية غير معلنة أشرفت عليها الدول الغربية الثلاث الأعضاء في مجلس الأمن بدعم من تحالف متقلب يسمى «أصدقاء سورية»، وهو تحالف غير معلن، لكنهم تولوا مسؤوليته مع الإسلاميين، ونجم عنه بسرعة موجة شاذة من أربعمئة ألف جهادي جاؤوا من جميع أصقاع الأرض للمشاركة في هذه الجريمة، وأضفوا على حرب الاعتداء القذرة صبغة من «الحرب المقدسة».

مقدسة لكن سادية، لأن العقوبات الأوروبية- الأميركية غير الشرعية ستبدأ بالهطل الغزير اعتباراً من ربيع عام 2011 مع نوع من الهوس الأحمق الذي يدل على المستوى الفكري لأولئك الذين يقفون وراء هذه العقوبات.

خلقت السنوات الأولى من النزاع وهم أن الموجة «الثورية» تبدو حتمية مثلما حصل في تونس ومصر وليبيا، وقاوم الجيش السوري بشجاعة خلال أربع سنوات ونصف السنة بمساعدة حلفائه الإقليميين بشكل سمح للدولة بـ«تحمل الصدمة»، ثم جاء التدخل الروسي بطلب من حكومة دمشق لكي يقلب الوضع، ويمثل شهر أيلول 2015 بداية التراجع المحتوم للموجة الصاعدة، وفي نهاية عام 2018، وفيما هو أكثر من شائعة، بل واقع ملموس، انتصر الرئيس بشار الأسد في الحرب عسكرياً وسياسياً.

لم يُخفِ الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما منذ عام 2016 قلقه كقائد حرب، لقد تحدث عن أحد اكتشافاته الاستراتيجية مرتدياً ابتسامته الدائمة وجائزة نوبل كدرع يحميه، أو بالأحرى إن صديقه ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط روبرت مالي هو الذي أقنعه، وأسرّ في إحدى المقابلات قائلاً: «تفضل الولايات المتحدة استمرار النزاع السوري إذا لم تكن لديها ورقة قوية على الأرض في مواجهة روسيا، حتى لو أدى ذلك إلى استمرار الحرب إلى أجل غير مسمى أو إلى استفادة داعش بشكل مؤقت، من جهة أخرى، ظهر أن هذا الرئيس اللطيف هو الذي اخترع نظريه «القيادة من الخلف» التي يرن صداها مثل اعتراف بالخبث أو بالعجز: لماذا «القيادة من الخلف»، إذا لم يكن ذلك لكي لا يكون مرئياً في المقدمة؟ أليست أفضل طريقة لإطالة أمد متعة الاعتداء هي تحويله إلى حرب هجينة وغير مرئية ولا نهاية لها عن طريق العقوبات والحظر والحصار وقانون قيصر والإجراءات العقابية الشاملة بمختلف أنواعها تحت غطاء صلاحية القوانين الأميركية خارج الولايات المتحدة لكي تفرض عقاباً جماعياً على الشعب السوري؟ إنها من أجل تفادي هزيمتها غير المتوقعة والانتصار غير المتوقع للرئيس بشار الأسد بشتى الوسائل ولاسيما الوسائل غير الإنسانية، وهكذا أصبحت الترسانة بأكملها على جدول أعمال المعتدين الذين يملؤهم الغضب.

في هذا السياق وللمرة الأولى منذ بداية الحرب، قامت جمعية الصداقة الفرنسية ـ السورية بتنظيم زيارة وفد، يضم ستة أشخاص، من 15 إلى 19 أيار الماضي، إلى دمشق بهدف إيصال رسالة صداقة إلى بلد أنهكته المحن لكنه شجاع بلا حدود، ولم يكن الوفد مكلفاً بأي مهمة رسمية أو غير رسمية، وهدفه هو جمع الانطباعات والآراء على ضوء الوضع والأحداث الراهنة، وأيضا اكتشاف العاصمة وسورية بالنسبة لأولئك الذين يزورونها للمرة الأولى.

كان انطباع المستضيفين السوريين جيداً تجاه هذا الجانب من الزيارة، وكان الاستقبال حاراً، لم يكن ممكناً تجنب الأسئلة المطروحة من كل حدب وصوب حول الموقف الذي تبنته فرنسا منذ اثني عشر عاماً، وفي الواقع، لم يُخف الذين قابلناهم حيرتهم فيما يتعلق بمنطق هذه السياسة ودوافعها وجدواها.

إنها رحلة مؤثرة برأي جميع أعضاء الوفد الذين أدهشتهم الشجاعة والطمأنينة والكبرياء التي يتحلى بها هذا الشعب الذي عانى بقسوة. إنه شعب فخور بأنه قاوم وانتصر، وهناك ما يدعو فعلاً للافتخار، وهذه هي الملاحظة التي لفتت الانتباه فوراً عند مشاهدة الشوارع المفعمة بالنشاط والعمل الدؤوب، ويمكنني القول كما هي العادة، زاد جمال هذا «الاستعراض» بمشاهدة روائع العاصمة التي اكتشفها أعضاء الوفد للمرة الأولى أو شاهدها بعضهم مرة أخرى، إنها عينة من الكنوز التي يزخر بها هذا البلد الرائع والجميل الذي يسكنه التاريخ في كل مكان منذ القدم سواء في القصور والمعابد والجوامع والكنائس والقلاع والأحياء القديمة والمواقع الأثرية.

انبهر أعضاء الوفد خلال لقاءاتهم الكثيرة التي تحدثوا واستمعوا خلالها كثيراً، بالنوعية العالية والكفاءة المتميزة للرجال والنساء الذين تحادثوا معهم دون أي غرور وبحرية كاملة بعيداً عن اللغة الخشبية، بالنسبة للذين ربما تكون لديهم بعض الشكوك والأفكار المسبقة عند وصولهم، فقد لاحظوا أن التسامح الديني متجذر بعمق في التراث: ألا يوجد ضريح يوحنا المعمدان وضريح صلاح الدين داخل الجامع الأموي تحت ظل منارة المسيح؟

تمثل زيارة دمشق في الوضع الراهن درساً حقيقياً في الشجاعة، ومشاهدة هذا البلد المدمر بالعين المجردة وأن تكون شاهداً على شجاعة وكبرياء شعب جريح بعد أكثر من اثني عشر عاماً من حرب ظالمة ومجرمة، يعني الذهاب إلى الحج والاستماع إلى شهادات الناس في قلب التاريخ، وإن مثل هذه الزيارة تدعو دون أدنى شك إلى التأمل أو حتى التفكير بمصير خمسمئة ألف قتيل ومليوني جريح ومليوني شخص رمتهم الحرب على طرق الهجرة وسبعة ملايين نازح، دون نسيان ضحايا الزلزال في شهر شباط الماضي.

لم يمر غياب الدول الغربية أمام نداءات التضامن مرور الكرام، ولم يخف على أحد أنها استفادت من الظروف لكي تفرض شروطاً مرفوضة مقابل مساعدات هزيلة، وذلك عندما طالبت بإيصال المساعدات عبر الحدود الشمالية التي تقع تحت سيطرة المجموعات الإرهابية.

كيف يمكن المشاركة في انتقام جماعي لغرب حاقد تجاه شعب مخنوق بالعقوبات الجائرة التي اعتقدنا أنها انتهت مع الأزمنة البائدة؟ كيف يمكن تفسير ما لا يمكن تفسيره عندما يكون هناك رفض للاعتراف بعدم وجود أي منطق. إن الفهم السائد للوضع السوري بعيد جداً عن الواقع ومبني على مثل هذه الأكاذيب القائلة إنه من الوهم العودة إلى الوراء، ولكن الوقت يمر بسرعة.

سيستفيد القادة الفرنسيون كثيراً إذا صمتوا لكي يتجنبوا تفاقم الوضع الصعب الذي تناقشه دبلوماسية متأزمة، وهل هو موقف حازم أم مهتز، من المحتمل أن وزيرة أوروبا والشؤون الخارجية السيدة كاثرين كولونا كسلفها جان إيف لودريان تجهل أن كلامها لم يعد يهم أي شخص ولا أحد ينتظره، ومن الممكن أن ننصحها بالاكتفاء بالحوار مع الأوروبيين الذين يشاركونها الجهل واللامبالاة وسوء النية.

إن محاكمة بشار الأسد أو إحالته أمام المحكمة الجنائية الدولية أو أي جهة أخرى تنفذ أوامر الغرب، هو أمر لم يعد ينجح، وفقد جاذبيته، وربما من المفيد أن نهمس بإذن الوزيرة بقائمة الأشخاص الذين من المفترض أن يتدافعوا أمام صف الانتظار في المحكمة الجنائية الدولية أو أن تكون على جدول أعمال ما تبقى من مؤسسات العدالة المزعومة، ويوجد ضمن هذه القائمة الكثير من الأشخاص الذين تعرفهم، الأحياء منهم والأموات.

من الإجرام الدعوة إلى استمرار أو تشديد العقوبات الاقتصادية المتعددة الأشكال وأحادية الجانب وغير الشرعية والقاتلة التي تضرب السكان المدنيين بقوة ولاسيما بعد تعرضهم للزلزال في بداية عام 2023. ويخطئ الساذجون الذين يحاولون لفت انتباه آباء الفضيلة من ذوي الياقات البيض في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على أمل استدرار شفقتهم، لأن هدفهم هو عملية القتل المبرمج للشعب السوري، ولقد نجحوا في عملهم القذر، إذ يعيش ثمانون بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، وغالباً بلا ماء ولا كهرباء ولا بنزين ولا مازوت لكن مع شجاعة لا حدود لها.

يجب على نخبتنا إدراك أن فرنسا يُنظر إليها كطرف ينتمي إلى معسكر المعتدين في سياق التقلبات الدولية والتغييرات الكبيرة الجارية حاليا، وبالمقابل، انتزعت سورية مكاناً متميزاً في معسكر المنتصرين إلى جانب أولئك الذين سيحظون بالأولوية في إعادة الإعمار إضافة إلى الدول العربية وبعض الدول الأوروبية التي لم تقطع الجسور أو عادت خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية مثل الجمهورية التشيكية ورومانيا وبلغاريا وهنغاريا وقبرص واليونان وإيطاليا.

ما زالت هناك فرصة أمام فرنسا للدخول في حركة العودة الكبيرة إلى دمشق من خلال الاستفادة من أوراقها الرابحة، ويتذكر الجميع مكاننا المرموق سابقاً في قطاع التنقيب الأثري، ودخول دول أخرى مكاننا من بينها بعض الدول الأوروبية؛ وكذلك في قطاع التعليم بالفرنسية، وشاهدنا ثانوية شارل ديغول التي أغلقتها الدولة الفرنسية، ولكنها استطاعت فتح أبوابها مرة أخرى بفضل جهود المتطوعين الذين نجحوا باستقبال مئات الأطفال في شهر أيار 2023 رغم كل المصاعب، وتحدثنا عن التعاون مع بلد كان نظامه الصحي قبل الحرب يحتل مركزاً متقدماً على الصعيد الدولي في جميع الاختصاصات، ورفدنا بآلاف الأطباء إما طوعاً أو تحت ضغط الأحداث.

ما زالت هناك فرصة أمام فرنسا، لكن المجال أصبح ضيقاً على صعيد الوقت والمكان، ويمر الوقت بسرعة، وتستعد سورية لكي تصبح من جديد محور الشرق الأوسط والعالم العربي وتستعيد مكانها في قلب التاريخ، فدمشق لؤلوة الشرق، ولن تكون فقط عاصمة بلد يُبعث من جديد بعد الكثير من المحن، بل ستكون أيضاً مدخلاً إلى هذا العالم العربي في ذروة استيقاظه والذي أصبحت سورية «قلبه النابض».

غداً سيكون الوقت متأخراً، إذا لم يقم بلد الأنوار بإعادة وصل التيار الكهربائي.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن