قضايا وآراء

ضواحي الجمهورية الخامسة.. جمر تحت الرماد

محمد نادر العمري

رغم تجاوز الاحتجاجات الفرنسية لسكان الضواحي أسبوعها الأول، وتقلص عدد المشاركين بها، مازالت كل المؤشرات تؤكد عودة تفجر هذه الاحتجاجات بشكل أفقي لتضم ضواحي فرنسية جديدة، بعدما تجاوز عدد نقاطها خلال الأيام الخمسة الأولى 50 منطقة وضاحية في عموم فرنسا رغم كل الإجراءات الأمنية التي تم تبنّيها من فريق إدارة خلية الأزمة التي يترأسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

هذه الاحتجاجات المتوقع توسعها في مرحلة قريبة أو إعادة تفجرها خلال الفترة القادمة، انطلقت شرارتها بعد إقدام الشرطة الفرنسية بشكل متعمد على قتل مواطن يدعى «نائل» من جذور جزائرية يقطن في ضواحي باريس، غير أن تراكم الأخطاء الناجمة عن السياسات الفرنسية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة في تهميش حقوق قاطني الضواحي، وإهمالهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً هي السبب الرئيسي لانفجار هذه المظاهرات.

فمنذ عام 2005 شهدت فرنسا أربع موجات عنف فيما عرف باحتجاجات الضواحي كان أبرزها تلك الناجمة عن قتل شابين صعقاً بالكهرباء في ضاحية «كليشي سو بوا»، وفي عام 2007 اندلعت احتجاجات في ضاحية فيلييه لوبيل بعد مقتل شابين من أصول إفريقية مهاجرة، هذه الحالات وغيرها دفعت نقابة الشرطة الفرنسية للقول بأن وضع هذه الضواحي كالجمر تحت الرماد.

ومما يؤكد اتسام هذه الاحتجاجات الأخيرة بميزة عن غيرها من الاحتجاجات مروحة من المؤشرات التي يمكن تصنيفها وفق النقاط الآتية:

أولاً- بالمقارنة بين هذه الاحتجاجات واحتجاجات أصحاب السترات الصفراء التي حصلت في عام 2019، فإن الأخيرة كانت تعبيراً عن حراك منظم تمارسه جماعات المصالح لتحقيق أهدافها، مثل ضغط النقابات ولاسيما نقابة العمال على الحكومة لتلبية مطالبها، لذلك فهي منظمة حصلت بشكل منظم وتحت قيادة وتوزيع للمهام والأدوار، وحالات العنف التي شهدتها قليلة ويمكن احتواؤها، على عكس احتجاجات الضواحي التي اتسمت بخاصية الفوضى في كل الجوانب نتيجة الغضب المتراكم لسكان الضواحي، وأغلبيتهم من المهاجرين الذين تبنوا العنف والفوضى للتعبير عن مطالبهم التي يسعون لتحقيقها، ولاسيما أن أكثر من 40 بالمئة منهم هم تحت خط الفقر وتزداد في مناطقهم معدلات البطالة والجريمة والجهل بالمقارنة مع المدن الفرنسية، رغم أن المسافات التي تفصل بين الضواحي والمدن ليست سوى بضعة كيلو مترات فقط.

ثانياً- إصرار الحكومة الفرنسية وفريق إدارة الأزمات على احتواء هذه الاحتجاجات بالعنف والقوة والتهديد مستعينة بنشر أكثر من 45 ألف عنصر أمن في عموم فرنسا بينهم سبعة آلاف في العاصمة باريس وحدها إلى جانب اعتقال الآلاف خلال الأيام الأولى، وهو ما كان ترجمة لتهديدات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير داخليته جيرالد دارمانان بالتعامل مع هذه الاحتجاجات بالقوة الحازمة، إلى جانب تلويح الأخير بتسريع إصدار ما سماه «نص حازم» ضد المهاجرين غير النظاميين، والذي يستند إلى ركيزة ليست تتعلق فقط بمنع تسرب المهاجرين غير النظاميين إلى فرنسا، بل إلى ركيزة أخرى تهدد الموجودين في سكان الضواحي، من خلال تضمين النص ركيزة ثانية توجب طرد الأجانب الذين يمثلون تهديداً للشأن العام وفق وصفه.

ثالثاً- تنامي واتساع العنصرية الأوروبية عموماً والفرنسية بشكل خاص خلال العقد الأخير، إذ تشير إحدى الدراسات التي أجراها المركز الأوروبي ضد التمييز إلى أن الشرطة الفرنسية تقوم بقتل شخص كل شهر بشكل متعمد خلال السنوات العشر السابقة، مقارنة بقتل شخص واحد بشكل متعمد خلال السنوات العشر التي سبقتها، وفي السياق ذاته اتفقت كل من صحيفة «لوموند» ومجلة «لوبس» الفرنسيتين على أن سبب دوامة العنف وغياب تهدئة العلاقات بين الشرطة والشباب من أحياء الطبقة العاملة يكمن في عدم وجود تغييرات عميقة، التي كان يجب أن تبدأ من الاعتراف أولاً بما هو واضح من أن هناك عنصرية مؤسسية في الشرطة، وأخذ ذلك على محمل الجد، وجعل محاربة الشعور بالتهميش وبالإهمال من قبل أفقر السكان أولوية وطنية، إذ على الرغم من تبني «سياسة المدينة» في مطلع الألفية الجديدة لتسهم في تغيير المشهد بالعديد من المدن الفرنسية لتحقيق تنمية شاملة وتخفيض مؤشرات الفقر وسرعة الاندماج داخل المجتمع، لكنها لم تنجح في عكس الاتجاه نحو إبعاد أفقر السكان ولا في تزويد الأحياء «ذات الأولوية» بخدمات عامة تعادل باقي المدن، حتى ما يمنح لهذه المناطق من «موارد أقل بـ4 أضعاف مما يقدم لأي مكان آخر، بالنسبة لعدد السكان».

رابعاً- سرعة انتقال الاحتجاجات الأخيرة لمدن مهمة مثل ليون ومرسيليا ومونبيليه واحتمال انتقال شرارتها إلى الدول المجاورة في ظل توافر بيئة وظروف ملائمة لذلك، سواء من حيث وجود ضواحٍ بالعديد من الدول الأوروبية تحتوي على مهاجرين غير شرعيين، أم من حيث اتجاه هذه الدول الأوروبية لتوظيف إمكاناتها ومقدراتها نحو دعم أوكرانيا على حساب تلبية أولويات التنمية التي تتطلبها داخلياً.

خامساً- الرابح الأكبر من الفعل وردة الفعل التي حصلت خلال هذه الاحتجاجات هو اليمين المتطرف في فرنسا بقيادة مارين لوبان، هذا التيار الذي سارع لاختزال حل هذه الأزمة بمعالجة التحديات التي تواجه الهوية والتي يتمثل أبرز تحدياتها بوجود مهاجرين لم يصلوا لفكر وثقافة وعلم الفرنسيين، في تجاهل لكل مسببات ودوافع هذه الاحتجاجات سواء من حيث ضعف التنمية والفقر والمخدرات والتمييز والعنصرية التي تمارس بحقهم من الشرطة بعد إجازة قانون 2017 الذي منح عناصر جهاز الشرطة حصانة وصلاحيات واسعة.

قد لا تكون هذه الاحتجاجات هي بداية نهاية الجمهورية الخامسة لفرنسا، ولكنها من دون أدنى شك تشكل أحد أبرز مهدداتها، ففرنسا بجمهوريتها الخامسة حالها حال العديد من الدول الغربية التي تتغنى بتبنيها شعارات براقة من حقوق الإنسان وتقرير المصير وغيرها من الشعارات التي قامت بذريعتها بشن اعتداءات خارجية في أرجاء المعمورة، ولكنها تجاهلت هذه الشعارات وتجاهلت تطبيقها على المستوى الداخلي حتى باتت الجمهورية الخامسة ومكانتها الدولية رهناً بجمر الضواحي تحت رماد العنصرية الحاكمة.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن