ما يزال الفعل الثقافي العربي دون المستوى المطلوب والمؤثر، وما يزال الإيمان بالفعل الثقافي دون الطموح، فالفعل الثقافي فعل مؤجل في حالتين: حالة الرخاء والاستقرار! وحالة الأزمات والحروب! وهذا يعني أن الظواهر الفكرية والثقافية المضيئة جاءت في حالة تسلل إلى حياتنا، فالحياة العربية لم تخل يوماً من الحالتين اللتين لا تعطي الثقافة عندنا أهمية!
وهذا الكلام ناتج عن التجربة، ففي حال الأزمة في ثمانينيات القرن العشرين انكفأت الثقافة ولم تؤد دورها، إلا في ميدان الثقافة المؤدلجة، واستمر الأمر حتى مطلع الألفية الثالثة، وفي عشر سنوات عاشتها سورية من الرخاء غاب الفعل الثقافي، وحلّ مكانه الهاجس الاستهلاكي، وكانت الفرصة مواتية ومتاحة لإحياء المسرح والسينما وشتى الفنون، وهذا الإهمال للفعل الثقافي أوجد مقابلاً ومعادلاً أسهم في تدمير البنية الاجتماعية والفكرية والثقافية السورية، ولم تكن الشخصية الثقافية محصنة، وبرز النوع الخطير من المثقفين الذين أسهموا في إشعال الفتنة، وزيادة نار المؤامرة على سوريتهم، والجميع يعلم، ولا مواربة في القول، بأن المثقفين قاموا بدور سلبي لم يقم به أي إنسان بسيط، وذلك بكل بساطة لغياب الثقافة الحقيقية المتنورة والعميقة، سواء كانت هذه الثقافة دينية أم علمانية، ألا نذكر أن جمال عبد الناصر سجن في زمانه الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وحين توفي في السبعين كانا سجينين، فرثاه أحمد فؤاد بقصيدة جميلة ومؤثرة، وبكاه بكاء مراً، وهو الذي يسجنه في زنزانته، لأن نجم مثقف حقيقي، وكذلك عبد الرحمن الأبنودي الذي بكاه وقال: نسّاني زنازينه! أظن أن ما فعلاه، وما فعله صلاح جاهين شاعر ثورة يوليو من صمت عن الشعر، وما فعله الشاعر الكبير سليمان العيسى من صمت واحتجاج، لم يكن إلا لأنهم شعراء منتمون للوطن حقيقة، وهنا أذكر سليمان العيسى الذي جالسته كثيراً، والذي بقي حتى أيامه الأخيرة في مشفى الأسد الجامعي يحمل أملاً، وينتمي إلى عروبته، وقال للجميع، وفي حوار طويل معه قال: مهما حدث فأنا شخص عروبي، ولا أحلم بغيرها، ولا أغيّر قناعاتي، ولن أنتمي لسواها، وغادر أبو معن الدنيا مبتسماً سعيداً، وكله إيمان بنهضة عربية ستحدث ذات يوم، وهو ما دفعه لعدم الارتماء في أي مكان أو حضن مهما كانت المكاسب.
وكل المشاهدين يذكرون عندما كان في حوار على إحدى القنوات الممولة خارجياً في حوار طويل، وحين نال المذيع من القومية، وقد استغل الغضب على القومية في الشارع بسبب ما حدث في الكويت والعراق، لكن سليمان العيسى باسمه الكبير غضب ورفع صوته وأسكت محاوره، وقال له: كلهم يذهبون وتبقى العروبة هي التي تربط ما بيننا، فأين مثل هؤلاء المثقفين الذين يؤمنون بالمبادئ على وجه الحقيقة؟ ولا أقول الإيمان بالأوطان، فلكل طرف من الأطراف تعاريفه الخاصة ومفهوماته عن الوطن، وقد تكون متغيرة بين لحظة وأخرى.
أين المثقف المشهور الذي يطير اسمه في الآفاق، ولا يملك سوى بيت متواضع لم يحصل عليه إلا بسفر أو بجمعية؟ أين المثقف الذي يغضب للمبادئ، ويمكن أن يقلب الطاولة ويغادر تاركاً خصمه ومعارضه في حيرة؟
إنهم موجودون وفي كل حبة رمل، ولكنهم غابوا أو تم تغييبهم عن الفعل الثقافي، وهذا الغياب كان ممنهجاً ومدروساً، فاستطاعوا أن يحوّلوا الثقافة إلى فعل وقع عليه التدجين، وهذا الأمر ليس محلياً، وليس عربياً، بل هو عمل ممنهج على مستوى المتحكمين بالعالم، فغابت بقدرة قادر الدوريات ودور النشر التي كانت تصدر عن الدور الروسية، ومن ثم كان الانقلاب على الفكر التثقيفي، لتتحول الثقافة التي تخص الناس إلى ثقافة استهلاكية لا تقدم أي نوع من الفائدة، ومع هذا الأمر غاب المثقفون وضاع الفعل الثقافي، وعلى المستوى العربي غاب الفعل الثقافي بداية مع صراع الماضي والحاضر، وبعدها في صراعات أيديولوجية حرمت المثقفين عن المراد منهم اجتماعياً، وتلا ذلك هيمنة مجموعة من المثقفين الأفاضل، ولكن مشروعهم الثقافي فردي ومصلحي، وهم من حملوا لقب مثقفي السلطة، والذين عملوا، ولكن بجهدهم وإمكاناتهم وغاياتهم!
هذا الغياب، أقول وثيقة مطلقة وهو الذي أسهم في خلق الأفكار العديدة والهجينة والوافدة، والتي تحولت إلى أفكار متطرفة سببت الكوارث في الوطن العربي على امتداده.. ما من عبث قال نابليون: أعطني مسرحاً وخذ شعباً..
وليس مصادفة أن ترتبط النهضة العربية قبل قرن ونصف القرن بالمسرح مع مارون نقاش وأبي خليل القباني، وأمير الشعراء الاتباعي أحمد شوقي في منفاه عرف سبيلاً للنهضة فكانت مسرحياته، وتوفيق الحكيم لو تابع دراسته في الحقوق ما كان ليفعل ما فعله بالمسرح والفن والثقافة.
السلاح مهم لصيانة المجتمع، لكن الأكثر أهمية هو بناء المجتمع من الداخل بالثقافة والفن والإبداع، وهو عالم مبهر يحقق التوازن الفكري والروحي.