من دفتر الوطن

مرجعيتنا بين الكلمة والصورة!

| حسن م. يوسف

بعض الأشياء تبدو لنا لامعة باهرة فور طرحها في التداول، لكن سرعان ما يفقد بعضُها بريقَه ويأكله الصدأ. أشياء أخرى تشبه سكة المحراث التي يُكسِبها الاستخدامُ لمعة لم تكن فيها، فيتحول معدنها الخشن الداكن إلى سبيكة من الفضة الخالصة!

خلال العقود الثلاثة الأولى من أعمار أبناء جيلنا، كان الكتاب هو قائد المشهد الثقافي في منطقتنا العربية ومعظم أنحاء العالم، وخلال العقود الثلاثة الأولى من أعمار الجيل الحالي تنحّى الكتاب عن مكانته نتيجة صعود نجم التلفزيون وتحوّله قسراً أو اختياراً، إلى زعيم شبه أوحد يهتف بحياته جُل أبناء هذا الجيل وكثير من أبناء الجيل السابق اعتادوا عليه!

لست بصدد المفاضلة بين خيارات أبناء جيلنا وأبناء الجيل الحالي، فبين أبناء الجيل الحالي قلة يعتمدون الكتاب كمرجعية لهم، وبين أبناء جيلنا من يشكل التلفزيون مصدر المعلومات الوحيد في حياتهم. والأهم من ذلك هو أننا نحن لم نختر ثقافة الكتاب بملء إرادتنا الحرة، كما أن أبناء الجيل الحالي لم يختاروا الصورة كمصدر أساسي لثقافتهم.

يحلو لبعض أبناء جيلي أن يعتبروا ثقافةَ الكلمة ميّزةً لهم، وثقافةَ الصورة وصمةً بحق أبناء هذا الجيل. وفي الحقيقة فإن معظم أبناء جيلنا، لم يكونوا جيل كتاب ولا جيل مجلة، بل كانوا سجناء خلف حاجز الأميّة الألفبائية والأميّة الثقافية. فأغلبية المتعلمين من أبناء جيلنا لم يكتسبوا عادة القراءة، وبعض آخر منهم ماتت هذه النزعة في نفوسهم لا بسبب غلاء الكتب وضيق ذات اليد وحسب، بل بسبب الكسل الذي يتحول مع التقدم في السن إلى ضرب من البَلادة السقيمة.

الكثير من أبناء جيلنا ليسوا في الواقع بريئين من ثقافة التلفزيون، والحق أن الكتابة للتلفزيون هي التي حفظت كرامتي وجنّبتني مذلّة الحاجة المادية. وقد سبق للكاتب الكبير الراحل ممدوح عدوان أن اعترف أيضاً بهذه الحقيقة على شاشة التلفزيون.

يجب علينا أن نعترف أننا نحن الذين قمنا بجلب أجهزة التلفزيون إلى بيوتنا، ونحن الذين وضعناها في صدارة هذه البيوت، وتنازلنا لها عن مكانتنا كآباء، في تربية أبنائنا. لاشك أن هناك اختلافاً جوهرياً فعلاً بين ثقافة الكلمة التي تأتي من الكتاب، وثقافة الصورة التي تتشكل من خلال السينما والتلفزيون والكمبيوتر.

الحقيقة التي لا مجال لنكرانها هي أن الكلمة المقروءة تعطي المتلقي حرية نسبية في إعادة بناء النَص المكتوب أثناء القراءة، فدلالة الكلمات تختلف من قارئ لآخر، لأن كل قارئ يتواصل معها من خلال حياته وذكرياته. في رواية (سبع ليال) لبورخيس تَرِد العبارة التالية: «تاجر من مدينة في الهند ينحت قطعة من خشب الصندل على شكل طاسة».

عندما قرأت هذه العبارة برزت في مخيلتي مدينة كالكوتا التي زرتها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ورأيت رجلاً لوحته الشمس في الأربعين، يصنع طاسة من خشب الصندل الأسود ذي الرائحة العطرة. أجزم أنني الوحيد في العالم، الذي أثارت كلمات بورخيس في ذهنه مثل هذه التداعيات.

أما الصورة فهي تشكل كياناً منغلقاً على ذاته. قد تُذكِّرك الصورة بأشياء أخرى تشبهها، لكنك مهما بذلت من جهد لن تستطيع أن تغيّر شيئاً من طبيعتها أو مكوّناتها. نعم، يُسهم القارئ في تغيير دلالات الكلمات قبل أن تُسهم هي في تغييره. أما الصورة فهي تكتفي بإتاحة نفسها لنا، من دون أن تعطينا القدرة على إعادة صياغتها. تقتضي النزاهة أن نعترف بأن الكلمة المقروءة متعددة الظلال، ليست مرجعية كثيرين من أبناء جيلنا. كما أن الصورة المغلقة ليست مرجعية كثيرين من أبناء هذا الجيل، فالابن يبقى بشكل ما استمراراً لأبيه مهما بدا مختلفاً عنه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن