يخضع العالم اليوم إلى جملة تحولات، تشير إلى تبدلات جوهرية قادمة في بنية النظام الدولي، خصوصاً أن الدول غير القانعة في هذا النظام بدأت تبحث لنفسها عن تمثيل في تكتلات اقتصادية جديدة قادرة على تلبية طموحها المستمر في التقدم على سلم الهرم الدولي باتجاه القمة، فأين العرب كمنظومة إقليمية متكاملة من ذلك؟
تصطدم الإجابة عن السؤال السابق مع ما ذهب إليه جميل مطر وعلي الدين هلال في كتابهما «النظام الإقليمي العربي: دراسة في العلاقات السياسية العربية»، من أن هناك عدّة جوانب تحليلية في ضبط التفاعلات داخل النظام الإقليمي العربي، كمدخل لفهم أوضح لتفاعلات هذا النظام، وعلى رأسها الخصائص البنيوية للنظام الإقليمي العربي، ويقصد بذلك سمات النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوحدات الدولية المكونة له، ومدى وجود تماثل أو تقارب بينها، ويمكننا أن نلاحظ في هذا الجانب، عدم وجود تماثل في هذه الأنظمة السياسية والاقتصادية، فمنها الرأسمالي والإسلامي والقومي والليبرالي…، فنستنتج من ذلك أن المصلحة هي المحدد الأساسي في تفاعلات النظام الإقليمي العربي.
لا مشكلة في أن تكون المصلحة هي المحدد في تفاعلات النظام الإقليمي العربي، لكن المشكلة الحقيقية هي في عدم إدراك العرب لمكمن مصلحتهم الكبرى، وهي في الاتحاد، ذلك الاتحاد القائم على قناعة العرب بأهميته في ظل نظام دولي تهيمن عليه التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، وخصوصاً أن الوحدات الدولية في النظام الإقليمي العربي، في حالة سعي دائم لأن تكون عضواً في تلك التكتلات الدولية مثل «بريكس» و«شنغهاي»، وغيرها من التكتلات الدولية.
إن إدراك العرب لمسألة أن الهوية لم تعد تحمل جانباً ثابتاً فقط من قبيل اللغة والتاريخ والمصير المشترك ووحدة القضايا وغيرها من المشتركات، بل باتت تتعدى ذلك إلى جوانب متغيرة يمثل الرفاه الاقتصادي والتقدم المعرفي أبرزها، لما لها من دور فاعل في تحقيق التماسك والوحدة للحيز الجغرافي، وتمكينه اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ومعرفياً، وفي هذا السياق على العرب أن يدركوا معنى الوحدة في ملاقاة المشاريع الكبرى في العالم، وعلى رأسها مشروع «الحزام والطريق» الذي تطرحه وتعمل عليه الصين، وأن الطريقة المثلى للاستفادة من هذا المشروع، يتمثل في طريق حرير عربي يلاقي طريق الحرير الصيني، هذا الطريق الذي يعيد سورية إلى محطة مركزية في الطريق على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بدلاً من موانئ القوى الإقليمية المنافسة المتمثلة في الكيان الإسرائيلي وتركيا، البدائل التي اعتمدتها بكين في مشروعها الجديد «الحزام والطريق».
مثل التحرك المستمر للجغرافيا العربية إحدى أهم العوامل التي ساهمت في تعدد الهويات، إذ إن الهوية العربية الإسلامية تحولت إلى هويات متعددة مع دخول الاستعمار إلى المنطقة، ومن تلك الهويات التي أرساها الاستعمار، الهوية الجغرافية الخاصة بشبه الجزيرة العربية، وهي «الخليجية»، نسبة إلى الخليج العربي، و«السورية» في مرحلتها الأولى نسبة إلى سورية الكبرى، وغيرها من الهويات، ومن ثم عاد تحريك الجغرافيا إلى ممارسة دوره في خلق هويات جديدة على أساس الحدود الجديدة فـ«السورية» مثلاً، أصبحت على أساس قطري بين سوري ولبناني وفلسطيني وأردني، وكذلك حال باقي الهويات القطرية في الوطن العربي.
إن إعادة توحيد الجغرافيا بمشاريع اقتصادية كبرى، هو خيار العرب الأكثر فاعلية في إعادة القوة لهويتهم، والوحدة في مواجهة المخاطر، والاتحاد في الموقف على حل قضاياهم المركزية، وبهذا السياق يمثل عمل العرب على إنشاء طريق حرير عربي يلاقي طريق الحرير الصيني، فرصة تاريخية لمشروع يعيد روح الوحدة إلى الجسد العربي المفتت، ويقدم للصين، صاحبة المشروع، خياراً عربياً موحداً ينافس عروض القوى الإقليمية المنافسة.