منذ صعود حكومة بنيامين نتنياهو الأخيرة للسلطة في كيان العدو الإسرائيلي يوم الـ 29 من كانون الأول من العام الماضي، كان من الواضح، قياسا لتركيبتها، أنها تحمل في جعابها الكثير مما ينتظر الساحتين الداخلية والإقليمية، إذ لطالما احتوت تلك التركيبة، التي ضمت 29 وزيرا، على 11 وزيراً من ذوي الجذور الاستيطانية كان على رأسهم وزير الأمن القومي ايتمار بن غفير المولود بمستوطنة «كريات أربع» التي قامت على أرض مدينة الخليل، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش المولود بمستوطنة «قدوميم» وهو الشهير بتأييد بناء المستوطنات اليهودية، حيث سيعلن في كلمته التي ألقاها أمام الكنيست قبيل بدء الحكومة بممارسة أعمالها بأنه يعتزم «تنظيم وتعزيز قبضتنا على الوطن» بكل ما يعنيه ذلك القول الخارج من حنجرة رجل متطرف يرى في الاستيطان سبيلاً وحيداً لتذويب الهوية الفلسطينية ومحو الثقافة التي يعتنقها حاملو هذي الأخيرة، وقياساً أيضاً لما أعلنته تلك الحكومة قبيل ممارستها للسلطة بيوم واحد فهي قالت: إن سياستها الاسترشادية سوف تقوم على مبدأ أساسي يقول: إن «للشعب اليهودي حق حصري لا جدال فيه في جميع مناطق أرض فلسطين» ومن الواضح وفق الأدبيات التي تعتمدها الحركات الدينية المتطرفة أن هذا القول الأخير كان يعني دفناً لأحلام الشعب الفلسطيني ولحقوقه الوطنية.
شكل مؤتمر «هرتسليا» الذي أسسه عوزي آراد المستشار السياسي لبنيامين نتنياهو العام 2000، منبرا لرصد المخاطر التي تحيط بالكيان ومن بينها «المسألة الديمغرافية»، وهو جاء في دورته المنعقدة أواخر شهر أيار المنصرم متساوقاً مع طروحات أقطاب اليمين الذين باتوا يمثلون «أذرع نقل الحركة» لحكومة نتنياهو الأخيرة، فعلى الرغم من أن المؤتمر كان قد احتوى خلال أعوامه الـ23 على أنماط من التطرف والعنصرية كانت مشهودة، إلا أن «طبعة أيار 2023» كانت عالية السقوف تجاه تلك الأنماط، والكلمات التي ألقيت فيها كانت تقول بضرورة إدارة الصراع في الضفة الغربية من دون فتح أي أفق للتسوية، وتقول بوجوب ضرورة المحافظة على وضع «الستاتيكو» القائم في قطاع غزة، الأمر الذي يشير حتماً إلى أن غرف صناعة القرار في تل أببب كانت تجد لها مصلحة في دفع المناطق الفلسطينية نحو مزيد من الاحتقان الذي سيدفع بها إلى الانفجار حتى إذا ما حدث الفعل أمكن، عبر موازين قوى تبدو شديدة الاختلال لمصلحة هذي الأولى، الاستثمار فيه والعمل على إحداث ترتيبات سياسية وأمنية من الصعب الوصول إليها في ظل أجواء باردة.
لا يمكن فصل «قيامة» جنين التي وصلت ذروتها شهري حزيران الماضي وتموز الجاري عن ذينك الفعلين، أي تركيبة الحكومة السادسة لنتنياهو ومقررات مؤتمر هرتسليا التي ترمز لـ«الدولة العميقة» في كيان الاحتلال، فكلاهما كان من النوع الذي يضع الهوية الفلسطينية برمتها أمام خطوط دفاعها الأخيرة، وفي ذاك بدا أن جنين انبرت بقضها وقضيضها تفتدي فلسطين وعروبتها، ولربما عروبة أهلها من المحيط إلى الخليج، فالمخيم أضحى منذ ما يزيد على خمسة أشهر مركز قيادة لفصائل المقاومة وملجأ آمنا لمنفذي عملياتها، وهو أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن «أجيال» المقاومة الجديدة عصية على الاحتواء لاعتبارات عديدة أبرزها أنها عابرة للفصائل التقليدية وعابرة أيضاً لحسابات وتحالفات هذي الأخيرة التي غالباً ما تكون محددة لمنهجها ولآليات عملها من دون أن يعني ذلك «قدحاً» في وطنيتها، لكن هذي الأخيرة، أي الحسابات والتحالفات، كانت كثيراً ما تصبغ تلاوينها على نسيج المنهج وخيطان العمل مما يمكن لحظه في مفترقات كثيرة بدا فيها أن شعار «وحدة الساحات» لا يعدو أن يكون شعاراً من الصعب دخوله حيز التنفيذ.
تشير عملية «البيت والحديقة» التي أطلقها جيش الاحتلال لمعالجة «قيامة» جنين والتي أعلن هذا الأخير في نهايتها يوم الأربعاء الماضي عن أنه «سيعود كلما اقتضت الحاجة إلى ذلك»، إلى أن أياً من أهداف العملية لم يتحقق، وتشير أيضاً إلى أن جنين باتت بحاجة إلى عدد لا متناهٍ من «البيوت والحدائق» لكي يتحقق شيئاً يذكر، بل إن الفعل قد لا يفضي إلا إلى مزيد من تصدع الأولى وخراب الأخيرة.
ما يؤكد تجذر فعل المقاومة الجديدة في تنظيمها، ولربما في عفويتها أيضاً، هو التخبط الحاصل داخل غرف صناعة القرار الإسرائيلي، والراجح هو أن التناقض الحاصل ما بين «الشاباك» وقيادة الجيش الإسرائيلي مؤخراً على خلفية الطريقة التي يجب التعاطي بها مع «قيامة» المخيم ليست ســوى الجزء الظاهر من ذلك التخبط، والعميق منه قد يشير إلى إمكان أن يواجه الائتلاف، الذي يحكم نتنياهو من خلاله، وضعية «انتهــاء الصلاحية» التي قد تجعله يسقط قريباً كما ثمــرة تعفـــن التصاقهــا بالغصــن الحامل لها، والوضعية سابقة الذكر قد لا تكون بفعل اضطراب الجبهة الداخلية فحسب، بل بسبب تداعيات محتملة، لهذا الحدث الأخير، على وضع الكيان داخل المجتمع الدولي، وتحديداً منه الولايات المتحدة التي مثلت وتمثل عــادة، «المظلة» التــي تقــي مــن حــر شمس المحيط ولهيب نار فلسطين، فالعلاقــة اليوم مع «المظلــة» ليست على ما يرام لاعتبارات عدة أبرزها أن واشـــنطن لا تريد، وليس من مصلحتها، الإبقاء على حكــم اليمين الراهن والذي كان الأعتى في تطرفه منـذ قيــام كيان الاحتلال على أرض فلســطين.
ملمح آخر تكشف من خلال أحداث جنين الأخيرة وهو يشير إلى أن مشهد النار الذي خبا مؤقتاً لن يطول مكوثه، وفعل الخبو هنا ليس أبعد من استراحة محارب عمد في ظل «عتي» النار إلى التقاط أنفاسه ومن ثم معاودة الكرة من جديد.. الانفجار الكبير قادم وهو الآن يستكمل الشروط التي تجعله حاملا لهذه الصفة الأخيرة.