العلمانية المؤمنة
| د. نبيل طعمة
الطاقة المحركة للأجسام المادية قادمة من تحولات مهمة، لكل ما هو سائل، أو غازي، أو صلب. وجميعنا يعلم أن الطاقة المنتجة لا تفنى، بل تتحول بعد تقديم خدماتها إلى حالات أثيرية، تسكن محيطنا، وتعلمنا بوجودها بشكل أو بآخر، والمتخصصون بشؤونها يعلمون الكثير عن حضورها. مدخل أردت أن أفتح بوابته المهمة، نناقش به ما يجول بخواطر سوادنا الكثير حول جدلية العلمانية، وهل هي ملحدة أم مؤمنة، وإلى ماذا يحتاج عالمنا العربي والإسلامي بغاية الخروج من قوقعته القابع فيها منذ زمن، ينتظر من يخرجه منها، وفي يده وحده أدوات الخروج إلى عالم الرحابة والجمال مستعيناً بطاقاته التي إن أمسك بأسسها أطاعته، وحول الصلب منها إلى قدرات خاصة به.
ما السبيل؟ سؤال مهم دعونا أيها السادة نتمسك به، ما دمنا نمتلك عقلاً أهلنا للتأمل والتفكر، وأنشأ فيه مساحات هائلة للذاكرة التي تشكل لنا مجموع القوى المحركة لمسيرنا، أفلا ندرك ونعقل أنَّ كل هذه القوى سخرت من أجل متابعة المسير، لا بغاية التوقف وانتظار الآخر الذي لا نعي كيف يرسم سبل مسيره، وأنَّ أول ما علينا القيام به هو تحرير العلمانية من متديني عبادات العادات والناقلين والمعترضين على كل شيء بالاتجاه مباشرة إلى تحقيق العدالة بين المواطنين، من خلال تأمين حرية الفكر فيما يختار وحرية اعتناق دين ما، أو مذهب، أو اتباع طائفة من باب حب الجوهر للتعلق بشيء ما يخصه، وتعزيز الإيمان بالمصلحة الاجتماعية العامة والسعي لصونها والحفاظ عليها، حيث تتعزز حقوق أفراد المجتمع والدولة، ومع كل ذلك، ينبغي وضع مناهج علمية تعزز البنى الأخلاقية، وتنفتح على الطبيعة الإنسانية واحتياجاتها المادية، أي علمنة التعلم.
أيها الناس الناسون لمعنى المخاطبة العاقلة، المال سمة استمرار الإنسان وأداته البسيطة والقوية في آن، يحتاجها لاستمراره، وفي البساطة تكمن القوة وسلطتها السحرية على المعتقدات السياسية والاجتماعية والدينية لا حدود لها، وهنا لا أسعى وراء إنشاء جدل جديد قديم، إنما أتمسك بمفردات ذاك الحوار المنطقي الذي نظمه الفكر العميق حول الوجود واللاوجود، المنطق واللامنطق، مع الخلاف والاختلاف الذي أثيرت حوله تساؤلات مهمة، كما حول ممتلكيه إلى شخوص مبهمة ومعرفة أنجزت في عمق الآخر مخاوف وهواجس بالتبادل عما نطرحه من جدل بشأنه، لا يمتلك إلا غاية واحدة، ألا وهي النهوض بهذه الأمة التي تآكلت من مفاصلها حتى نخاعها، وأصابها الوهن والضعف والاستجابة للتسليم الذي يؤدي إلى طريق واحدة هي الاستسلام، ورضيت الذل والهوان والخضوع للآخر، من خلال تطور شرورها والجشع الذي تملك أنا أفرادها، وخاصة في المناحي الاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن السياسية، لتتحول الرؤى الجمالية للحياة إلى تراجيديا عنيفة، تطفو على السطح، يسيطر عليها اليأس من إحداث عمليات تطوير فكري، يستند إلى المبادرة والإبداع وخلق الجديد المفيد لنا ولمحيطنا، لذلك نجد أن فرد تجربة العلمانية التي تحولت لدى العوالم الأخرى إلى واقع منتج من دون تكفير غدا ضرورياً، ووضعها على بساط البحث يعني أننا بدأنا نناقش واقعنا المزري والمؤلم بجدية فكرية علمية، تتجه إلى دمج العلم بالإيمان، فيظهر عنواننا من خلاله.
المسألة تحتاج إلى الجميع، وأقصد المشتغلين على نظم بناء وطن والمسؤولين المباشرين عن إحداث عملية التوازن بين القوى الروحية ومسارات الحضور المادي للتعامل مع سيرورة الانتقال من الوراء إلى الأمام، أو البقاء في المنتصف الذي يرفضه العقل المنطقي، من باب أن الحلم الإنساني تأسس من حركة الروح الإبداعية التي تقيس بشكل دائم وضمن حالة من الشعور الأبعاد التي تريد الخروج إليها من محدداتها، والغاية الرئيسة في كل ذلك الوصول إلى سمات المدنية الجديدة التي أحدثتها اللغة الإنسانية الباحثة عن ضرورات الاستمرار الإنساني، على الرغم من كامل الصعوبات البشرية المتمركزة في محاور الفكر، والقائلة دائماً بضرورة سيطرة الجزء على الكل، والكل على الجزء، صورة السعي البشري الدائمة لامتلاك كل شيء، إذاً هي معضلات دعونا نتفكر في الحل والبحث عنه بغاية الخروج منه.
تعالوا نعترف بأننا مجتمعات مكافحة من دون علمية العلم امتلكنا التعلم، ولم نتطور إلى العلمية، نؤمن بمسقط رأسنا، وبما نبنيه على جغرافيتنا، ونتمسك كثيراً بما ننجز بفردية الأنا، لا بلغة الجمع، على الرغم من بساطته، وأن فكرنا يستند بشكل كبير إلى الروحي الغيبي، وأن من يدعي العلمانية لحظة أن يمر من جانب كنيسة أو مسجد، إما أن يثلث، أو يقرأ الفاتحة، وهنا أتوقف عند عنواننا الذي أشير فيه ومن خلاله إلى السؤال: لماذا لا نكون مؤمنين في الجوهر وعلمانيين في الحركة والسلوك والإنتاج والإبداع؟ وما دامت الروح طاقة من أجل الحركة والسكون والعلم سبيل وحيد للحياة، وبهما نستطيع أن نتجه إلى الأمام من دون الالتفات إلى هذا أو ذاك، إذاً لنكن كذلك، وننهِ أولاً التكفير، ونتجه بعده إلى التفكير، حيث يأخذ بنا إلى التأثير، من دون تأثر وأثير يسعى المحيط إلى استنشاقه، وبه نشعر أننا موجودون وفاعلون على هذه الأرض التي تريدنا كذلك، ونغدو معها بنَّائين، لا هادمين، ولا مريدين، وهنا تظهر المسألة من جديد التي نتخلى بها عن مفاهيم أقصى اليسار وأقصى اليمين، والتشدد والتطرف في السياسة وفي الدين.
العلمانية المنطقية المؤمنة تختزل عقم الحداثة وجدليات التحديث وأسرارها المأساوية، وتتحول إلى شخصية جديدة تمتلك أناقة الجمال وإتكيت الحركة واللقاء والالتقاء وبناء الوجود من أسس الطبيعة الواقعية وأدبياتها، فتنتهي لحظة الأخذ بها التهمة الكبرى التي التصقت بالعربي المسلم، ألا وهي أزمة الإسلام مع الحداثة ومفرزاتها التي أرخت بظلالها على مجتمعاتنا، وظهرت من تحت تلك الظلال أزمات هائلة، زادت من تدمير الفكر العربي الباحث عن الحياة، لمصلحة فكر التكفير والتشدد وتدمير البنى التحتية والفوقية.