كثيرون هم الذين يتهمون الخليل بن أحمد الفراهيدي بأنه هو من وضع قواعد القوافي، وسنَّ سُنن التفاعيل، ناسين أو متناسين أنه كان مجرد قارئ لما مضى، ومعبِّرٍ عمَّا رأى.
من خلال هذا المفهوم؛ فإن نازك الملائكة امرأةٌ سبقت عصرها برؤية إبداعية عميقة؛ تجاوزت فيها اللغة والزمن، رؤيةٍ أطلقت من خلالها لنفسها العنان لكي تتحدى حدود النمطية والتقليد، فاعتبرت القافيةَ قيداً، وقالت إن تفاعيل الخليل تحدُّ من قوة الإيحاء الكبرى التي تعتملُ في صدر الشاعر العظيم… بل لقد تجرأت أكثر وادَّعت بأن أسلوب الخليل في ترتيب التفاعيل يغلفُ شعر الشعراء بقيود تمنعهم من الانطلاق نحو العالمية، إذ في رأيها أن تفاعيل الخليل كانت واحدةً من الأسباب التي حالت دون وجودِ الملحمةِ العربية، تلك الملحمةِ التي ظهرت في آداب الأمم المجاورة كالفرس واليونان.
من هنا فقد تجاوزت نازك الملائكة بوعي كبير تلك الحوافز النمطية، وخاضت في عملية تجريب عميقة على مستوى النص الشعري العربي، فكانت شاعرةً مهمة ضمن مجايليها ممن أثروا الشعر العربي، ووصلوا به إلى مرحلة إشباع في الذائقة وتألقٍ على مستوى الإيقاع والبناء الفني من أمثال بدر شاكر السياب والبياتي وفدوى طوقان.
ونجحت نازك في تحقيق نقلة إبداعية مستمرة، وذلك من خلال الكتابة ضمن نص مختلف؛ يحملُ إضافة نوعية ولمسة فنية متألقة، لعلَّ الشعر العربي كان بحاجة إليها.
كانت نازك الملائكة سليلة أسرة إبداعية أدبية، فقد ولدت عام 1923 في بيت علم وأدب يرتعُ على ضفة من ضفاف نهر دجلة، أمها الشاعرة (سلمى عبد الرزاق)، وأبوها الباحث الأديب (صادق الملائكة).
تخرجت في دار المعلمين العليا عام 1944 بدرجة الامتياز، ثم انتسبت إلى قسم الموسيقا بمعهد الفنون الجميلة في بغداد لتتخرج عام 1949، وأتيح لها أن تتابع تحصيل دراستها في الولايات المتحدة الأميركية، وحصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكنسن عام 1959، وعادت لتعمل أستاذة للأدب في جامعات بغداد والبصرة والكويت.
كانت قصيدتها الأولى (الكوليرا) عام 1947، وقد كتبتها تأثراً بمأساة مرض الكوليرا الذي فتك بأهل الريف المصري آنذاك، تميزت هذه القصيدة التي تحمل نبضاً إنسانياً مؤثراً بتجديد إيقاعي وبنائي للقصيدة الكلاسيكية.
ومنها تقول:
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْداً يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطرباً مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفّلاحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
كانت نازك تحاول أن تجعل لنفسها لغةً ذاتيةً فريدة، وذلك بأن تُحمِّلَ الألفاظ طاقاتٍ واسعةً جديدةً لم يستعملها الشعراء من قبل، ما أهَّلها للخوض في تجربة الرمزية والتعبير السيريالي، وقد ظهر ذلك جلياً في مجموعتها الثانية (شظايا ورماد)، ومنه قولها:
إيهِ يا عاشقة الليلِ وواديه الأغن
هو ذا الليلُ صدى وحيٍ ورؤيا مُتمنى
تضحكُ الدنيا وما أنتِ سوى آهةِ حزنٍ
فخذي العود عن العُشبِ وضميه وغني
إنها ترى أن التلميح أجمل من التصريح، وتعتبر أن الجمال يتطلب الرمز، وأن التعبير الصريح الواضح يجعل الكلام خالياً من الجمال والحسن، أما استخدام الرموز فإنه يُكسبُ القصيد جمالاً سحرياً، ويمنحها أبعاداً عميقة تجعلها تنطلق نحو عدة اتجاهات.
لقد اعتبرت نازك قضية الشعر الحر قضيتها، فكتبت عدة دراسات ومقالات تدافع فيها عن هذه القضية، منها كتابها ( قضايا الشعر المعاصر)، كما كتبت مجموعة قصصية تنزع فيها منحى صوفياً عميقاً.
ونظمت العديد من القصائد عن الوحدة العربية ونكبة فلسطين والثورة العراقية.
أصدرت تسع مجموعات شعرية هي: عاشقة الليل، شظايا ورماد، قرارة الموجة، شجرة القمر، مأساة الحياة وأغنية للإنسان، للصلاة والثورة، يغير ألوانه البحر، وصدرت أعمالها الكاملة في مجلدين بطبعات متعددة.
ولها عدة أعمال نقدية ونثرية، منها:
قضايا الشعر المعاصر، التجزيئية في المجتمع العربي، الصومعة والشرفة الحمراء، سيكولوجية الشعر.
في أواخر حياتها عام 1995 غادرت مع زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة الذي أنجبت منه ابنها الوحيد العراق إلى الأردن، ثم سافرت إلى القاهرة، وهناك استكانت للمرض والعزلة، وتوفيت عام 2007.
حقاً إن نازك الملائكة أديبة إنسانية مُجليَّة، ولكن لا ينبغي للشاعر أن يغرق في الرمز إلى درجة يضيع معها القارئ، وتصبح القصيدة لغزاً لا حلَّ له.
وإن شعرها يقودني إلى تذكر الشاعر العظيم عمر أبو ريشة حين سُئل عن رأيه في الشعر الحديث؛ فقال:
ليس هناك شعر قديم وشعر حديث، هناك شعر أو لا شعر.