قضايا وآراء

فرنسا مأزومة.. قوة اليمين تتنامى

| عبد المنعم علي عيسى

أن تحدث هزتان من عيار ثقيل خلال فترة لا تزيد على نصف العقد في كيان واحد، كثيراً ما يوصف عادة بنضج طبقاته إلى الدرجة التي باتت فيها تياراته وقواه الفاعلة ملزمة برفع شعارات من نوع سيادة القانون وتساوي «الكل» تحت ظلاله، فتلك مسألة يجب التوقف عندها طويلاً لأنها من دون شك تأتي لتكشف، كما الزلازل، عن بنية غير مستقرة ولا بديل لاستعادة استقرارها من العبور إلى ما يشبه الإنزياحات بين طبقاتها، وتياراتها، التي قد تتكرر وتتكرر تبعاً لوضعية البنية آنفة الذكر.

اندلعت تظاهرات «السترات الصفراء» منتصف شهر تشرين الثاني من العام 2018 والشرارة كانت من قرية صغيرة بضواحي العاصمة باريس تدعى «سين ومارن»، ولم يطل الأمر بالأخيرة لكي يمتد لهيبها، فيطول مدناً كبرى مثل العاصمة ومرسيليا وليون، سوى بضعة أيام في مؤشر على تزايد «الحطب في الكرم»، فيما الفعل، أي تظاهر ذوي السترات الصفراء التي يلزم القانون الفرنسي سائقي السيارات بارتدائها، كان يرمي لإجبار الحكومة على الرضوخ لمطالب دافعي الضرائب من العمال والموظفين، وبين شد وجذب، وجدت حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأولى نفسها أمام التحدي الأول لها وهو الأخطر من نوعه الأمر الذي أدى إلى هز «مشروعية» هذا الأخير الذي وصل إلى السلطة كمرشح لرأس المال بعيداً عن أحزاب فرنسا التقليدية التي نشأت في ظلال «الجمهورية الخامسة» التي أقامها شارل ديغول في أعقاب تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني عندما وطأها خلال سني الحرب العالمية الثانية.

استمرت الحركة نحو أربع سنوات نتيجة لعدم رضوخ الحكومة الفرنسية لمطالب المحتجين وثباتها عند موقفها خشية أن تصبح تقليداً يعتد به في الوقت الذي كانت التباشير فيه تشير إلى إمكان تكرار الفعل بهذا السبب أو ذاك مع تسجيل يفيد بأن الأسباب باتت قيد التبلور قياساً لمعطيات عدة راحت تتراكم وتتراكم فيما العلاج مهمل أو هو مؤجل على أبعد تقدير، وآخر تظاهراتها كانت شهر كانون ثاني المنصرم، وعلى الرغم من أن زخم الحركة كان قد بدأ بالتناقص مع بلوغها عيد ميلادها الأول إلا أن طول أمدها كان كفيلاً بترك «ندبات» على السطح المجتمعي الفرنسي من النوع الذي يوسم هذا الأخير بحروق تظل مناطقها أقل مقاومة، من غيرها، في مواجهة ما يعترضها خصوصاً أن التراسيم الظاهرة في طبيعة تلك الاحتجاجات كانت توحي بأنها لن تكون الأخيرة قياساً لتراكم «اليباس» في الكرم آنف الذكر.

صبيحة يوم الأحد 27 حزيران المنصرم قام شرطي فرنسي بقتل الفتى نائل مرزوق، الفرنسي من أصول جزائرية، إثر محاولته الهرب من اختناق مروري، لكن بيان الشرطة الصادر في أعقاب الحادثة كان موارباً أو أنه ادعى سبباً آخر لقيام الشرطي بفعلته سابقة الذكر، الأمر الذي أعطى زخماً إضافياً لتظاهرات اندلعت على الفور وهي بلغت ذروتها يوم الأحد 2 تموز، حيث سيشير بيان الشرطة الراصد لاحتجاجات هذا اليوم إلى أن المتظاهرين «أحرقوا 577 سيارة، وأضرموا النار بـ74 مبنى، وأن 45 شرطياً قد أصيبوا بجروح متفاوتة» قبل أن يضيف البيان: إن «السلطات قامت بتوقيف 719 شخصاً في تلك الليلة».

ما يلاحظ على طريقة التعاطي التي انتهجتها السلطات الفرنسية مع الحدث هو أن الفعل كان يحمل تخبطاً بادياً بوضوح، بل ويحمل بين طياته أيضاً تناقضاً مع السياسات التي انتهجتها، تلك السلطات، مع أحداث مشابهة جرت في «الخارج»، وفي ذاك قال الرئيس الفرنسي: إن منصات التواصل الاجتماعي هي التي تتحمل المسؤولية الكبرى عما يجري قبيل أن يدعوها لـ«التحلي بالمسؤولية»، ومثل هذا لم يحدث معه، أو مع أسلافه، في التعاطي مع أزمات مشابهة لعبت فيها منصات التواصل دوراً أكبر بما لا يقاس من الدور الذي لعبته نظيرتها الفرنسية إبان أزمة «السترات الصفراء» ومقتل نائل مرزوق، كالأزمة السورية مثلاً، ثم ذهبت رئيسة وزراء ماكرون للتهديد بإمكانية فرض حالة الطوارئ بهدف «إيقاف الاحتجاجات واستعادة الأمن» الأمر الذي لطالما اعتبرته باريس على الدوام خرقاً لقواعد «حقوق الإنسان» لا تبرره أي أحداث ولا احتجاجات مهما تكن حدتها، والسياقات السابقة توحي في مجملها أن الركيزة التي استندت إليها السلطات الفرنسية في تبرير تناقضها الحاصل في طريقة التعاطي مع أحداث داخلية وأخرى خارجية مشابهة، كانت تجب نهجها من قاعدة تقول: إن «من يده في النار ليس كمن يده في الماء»، وبدوره راح تيار اليمين، المتنامي صعوداً منذ نحو عقدين، نحو الاستثمار في ما يجري لتعزيز مواقعه، حيث دعت النقابات الفرنسية، التي يسيطر تيار اليمين على دفتها، في بياناتها إلى «التشدد مع المحتجين» واتخاذ إجراءات أقوى لمحاربة «جحافل المتوحشين، واستئصال شأفة الآفات التي تقود أعمال الشغب»، وذاك خطاب يرقى لأن يكون عنصرياً بدرجة امتياز، بل ويصح القول: إنه مستوحى من التقاليد الاستعمارية الضاربة لجذورها عميقاً في البنيان الفرنسي، في الوقت الذي أشارت فيه نتائج الاستطلاعات إلى تراجع شعبية تيار اليسار ممثلاً بزعيم المعارضة اليسارية جان لوك ميلانشون وزعيمة «حزب الخضر» مارين توندلير في أعقاب اتهامهما للشرطة الفرنسية بممارسة «العنصرية الممنهجة» في تعاطيها مع الأحداث.

ما تشير إليه «الدمل» التي راحت تظهر بين حين وآخر على سطوح «البشرة» الفرنسية هو أن «الخلايا الجذعية»، التي تتولد منها جميع الخلايا التي تؤدي الوظائف المتخصصة، باتت تعاني من خلل واضح، في الوقت الذي يبدو العلاج فيها غير متاح، وبمعنى أدق هناك ضرورات ملحة تفرض تأجيل علاجه، وفي الذروة من هذي الأخيرة إفرازات الحرب الأوكرانية التي باتت ثقيلة الوطأة على المجتمعات الغربية، فبعدما كان الظن أن واشنطن نجحت في إيقاع الروس بالمستنقع الأوكراني بات الآن من المؤكد أن الغرب أيضاً وقع هو الآخر في المستنقع عينه مما يمكن لحظه في تدهور مستوى معيشة الفرد الذي لطالما مثل «مكياجاً» و«لاصقاً» في آن، يخفي الأول عيوب البشرة في حين يلعب الثاني دور صهر ما يصعب صهره في ظل غيابه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن