علمتني الحياة باكراً أن الرمادي هو لون الحقيقة، غير أني لم أتصور يوماً أن عدد درجات الرمادي هائل بهذا القدر وأنني محكوم بتسديد ضريبة هذا الجهل بالتقسيط المريع مع كل يوم جديد.
عندما خدمت دورة الأغرار على جبهة الحروف قبل قرابة نصف قرن لم أتخيل حتى في أسوأ كوابيسي أنني سأعيش حتى اليوم الذي يكاد يكون التفاؤل فيه ضرباً من الوقاحة!
أهم ما علمتني إياه الحياة، هو أن أحترم حق الآخر في الاختلاف وألاّ أقارن ظروفي بظروف أحد، فما يصلح لي قد لا يصلح لغيري والعكس صحيح أيضاً.
في صدر الشباب وجدت نفسي، ومعظم أبناء جيلي، أمام خيارين حاسمين، إما أن نقبل الظروف كما هي أو أن نتحمل مسؤولية تغيير تلك الظروف. لكن أعمارنا، مع الأسف، تبددت بين هذين الاحتمالين، إذ إن كبرياءنا لم يسمح لنا بتقبل الظروف كما هي، ولم يمكِّنا تشتُّتُ كلمتنا وخوار إراداتنا، وتفاقم عنعناتنا، من تغيير تلك الظروف!
شيخ مؤرخي اليونان هيرودوت قدم لنا مبرراً قوياً لفشلنا، عندما قال: «تتحكم الظروف بالرجال، ولا يتحكم الرجال بالظروف. «غير أن أستاذي شيخ الساخرين جورج برنارد شو لا يؤمن بالظروف إذ يقول «… الناجحون في هذه الدنيا ينهضون في الصباح، يبحثون عن ظروف مواتية، فإذا لم يجدوها، صنعوها». وأنبل الحالمين في القرن العشرين تشي جيفارا يرى أن: «الإصرار والتصميم أقوى من الظروف».
صحيح أن جيلنا أثبت براعة في الكلام، لكن الكلام، مهما بدا جميلاً، يسقط على الأرض ويفقد روحه المقدسة عندما لا يقترن اللفظ بالفعل. وقد فشلت أفعالنا في اللحاق بأقوالنا. بل إننا فشلنا في فتح ثغرة في المستقبل أمام شبابنا الذين حموا الوطن وخاضوا معركته الطويلة ضد الإرهاب، فكافأناهم برواتب من العالم الثالث وأسعار من العالم الأول!
قبل نحو أسبوعين كتب الصديق الدكتور المهندس جعفر محسن الخير لسان حال على صفحته في الفيس بوك بعنوان: «وطن يتحول إلى ذكريات» جاء فيه:
«رحل صديقي عن 68 سنة رجل مجتهد من بيئة ريفية يمتاز بالطيبة والاجتهاد رحل وأبناؤه مسافرون خارج البلد. سافرت الدكتورة آية إلى بلاد الجرمان وقبلها كثيرون وبعدها كثيرون من أطبائنا ومهندسينا والمتميزين من أبنائنا ممن وصل إلى سن الرشد وللبحث عن المستقبل بعد خسراننا لنفطنا وفوسفاتنا وقطننا وقمحنا وريفنا وخسارتنا لأسواق فواكهنا وخضرنا وتفتيت مجتمعنا صرنا نصدر البضاعة الوحيدة القابلة للتصدير، فلذات أكبادنا أبنائنا وبناتنا… إلخ».
يعلم قارئي المتابع أنني كتبت مراراً عن الشباب وعبرت عن إيماني بأنهم هم المحرك الحيوي، الذي يملك القُدرةَ على الانطلاقِ بمجتمعِنا إلى الأمام، لكن ذلك المحرك يصبح عديم الفعالية عندما ينفصل أو يجري فصلُهُ عن علبةِ السرعةِ التي تنقُلُ قوتَهُ إلى العجلات، وتساعد السائقَ على التحكمِ بسرعةِ العربة، بما ينسجم مع طبيعةِ الطريق، لضمان سلامة الوصول.
أمس قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف» إن 289 طفلاً توفوا في النصف الأول من العام 2023 خلال محاولة عبورهم البحر المتوسط باتجاه أوروبا، وهذا الرقم يوازي ضعف الرقم المسجّل في النصف الأول من العام الماضي. الصادم هو أن بعض هؤلاء الأطفال أرسلوا في زوارق الموت من دون مرافقة ذويهم، لقاء أجر يبلغ نحو سبعة آلاف دولار للطفل الواحد، مما ينطوي على دلالات مخيفة أبسطها يثير الذعر، فالأهل لا يرسلون أبناءهم بعيداً، إلا عندما يتأكدون من المصير الذي يخبئه المستقبل لهم.