ثقافة وفن

ليس وعظاً بل منهج بناء

| إسماعيل مروة

حكايات التاريخ الإيجابية كثيرة جداً، وليست قصص التاريخ كما يصورها كثيرون تقتصر على الخيانة والغدر، ليست ابن العلقمي، وليست صراع الحكام والأمراء وحسب، وليست غدر واحد من المحسوبين على السلطان بأستاذه كما نسمع!

كل هذه القصص تحصل ويحصل أكثر منها، فالحياة ملأى بالشواهد، ولكن الوقوف عند القصص السلبية يمثل مرتكزاً فكرياً لدى شرائح من الناس لا ترى إلا الجانب الذي يدفع إلى الكفر والجحود..

التاريخ هو المنطلق لحياتنا، وهو الذي نستخلص منه العبر لبناء مستقبلنا، ويخطئ كثير من العاطفيين في التعامل مع التاريخ، ويريدون منا أن نعود لنحيا حياته! وهذا أمر محال، حتى من أكثر أنصار الماضوية الذين يستخدمون اليوم وسائل التواصل الحديثة والتقانة في أبهى تجلياتها، وهم في الوقت نفسه يدعون الناس إلى الماضوية، على ما تحمل هذه الدعوة من نكوص وتخلف، وعودة إلى الاصطفاء والتخيّر، ولا يجد الواحد منا إلا النماذج السلبية لنحيا تناحراً كان وانتهى، وتخلق عدوانية لا مسوّغ لها، فيبقى الوضع على حاله، وربما تحول إلى فظاعة مروّعة كما رأينا في العقود الأخيرة من حياتنا العربية وطبيعة الصراعات التي التهمت الأرض والمال والبشر دون مسوغ، ودون إمكانية لإعادة الحياة خطوات لإعادة تركيبها، والعقود الأخيرة التي شهدت انهيار المبادئ العلمانية أدت إلى ردّة للماضي وخلافاته بل إلى خلق خلافات جديدة.

الماضي والتاريخ مرتكز وعبرة، فنحن عندما نستعيد سيرة قطز وصلاح الدين ومن قبل خالد بن الوليد، لا نستعيده بجملته، فهناك أحكام إنسانية تقع تحت وطأة زمانها، ولكننا نستعيد نقاط النجاح لنبني آليات تفكير، إذ ليس بإمكاننا اليوم أن نخوض المعارك بالفروسية والسيوف وما شابه ذلك، لكن يمكن أن نستعيد الحنكة والخطط والخديعة لنبني عليها وفق زماننا، وهذا ما فعله الجنرال الباكستاني «أكرم» في دراسته لشخصية خالد بن الوليد العسكرية في دراسة علمية تقنية نادرة، بينما الدراسات العربية لم نجد إلا قصة مع مالك بن نويرة! التاريخ أن نقرأ العبقرية وحدها لنصنع مستقبلنا، وها هو صلاح الدين في حروبه مع الفرنجة، وكل ما قام به من خطط، وكل أخلاقياته التي تحدث عنها المؤرخون نتركها جانباً، لننتقد تصرفاته في توزيع السلطة، وفي التعامل مع هذا الشخص أو ذاك مراعاة للجو العام..

وقطز نترك عبقريته لنتحدث عن أصوله..! حتى ياقوت الحموي الذي أغنى المكتبة العربية بأهم الكتب «معجم الأدباء- إرشاد الأريب» و«معجم البلدان» نترك جولاته في طلب العلم وخدماته، لنقف عند أصله، فهو مولى، وتم بيعه ونسبة الحموي، وما إلى ذلك..! والتاريخ له يجب أن يعلمنا أنه ما من شيء يمكن أن يحول بين الإنسان والعلم والمجد.. تعاملنا مع التاريخ معضلة، فجانب يدعو إلى نبذ التاريخ لأنه سبب مشكلاتنا، وجانب يدعو إلى تقديسه وعدم مغادرته لأنه ضمانتنا، وكلاهما لا قيمة له، ولا يجوز أن يعتدّ به، أو أن يؤخذ به، فالتاريخ مضى، وتلك الأحزاب لم تعد صالحة، ومعاركهم ليست لنا، وأساليبهم لا تعنينا.. المطلوب منا عندما نقرأ التاريخ أن نلمس العناصر السلبية ونبتعد عنها، وقد أثبتت سلبيتها خلال خمسة عشر قرناً أو أكثر؟، وأن نلمس العناصر الإيجابية وأن نأخذ منها العبرة، فلا يضيرها أنها كانت في الماضي.. الإيجابية التي تبتعد عن الأنانية.

منذ أيام كنت في جلسة سببت لي طعم مرارة، فبعد كل ما جرى، ومن صفوة ناس، كل واحد منهم يحمل انتماءه ويرفعه على كل ما عداه، ويقاتل لأجله، وهناك شواهد في أهم المنابر العلمية التي تخضع للتمسك بالجوانب السلبية من الانتماء الذي دمرنا على مدى هذه القرون المتطاولة، أما من صور في تاريخنا للإيجابية؟ أرسل لي خلّ وفيٌّ إشارة إلى العالم عطاء بن أبي رباح ودخوله على هشام بن عبد الملك، مع ما يشاع عن الحكام الأمويين من قسوة قد لا تكون، ولن أسرد الحادثة، لكن الخليفة سأله عن حاجته ولباها، وكانت حاجته خاصة بالرعية وجند الثغور وباليهود والنصارى، والجزية والأسواق، وختمها بوعظ الخليفة فأبكاه، وبعد خروجه تبعه أحد الجند ليعطيه كيساً من النقود فرده عطاء وهو يقول: إن أجري إلا على الله..! ختم صديقي رسالته، ما أحوجنا إلى علماء مثل عطاء وكررها أكثر من مرة نعم، إنه التاريخ الإيجابي، وما أحوجنا إلى هذه الطبقة من العلماء التي أرادت مصلحة الأمة، وفيها من يخالفه، ورفض مصلحته الخاصة، وترك أجره على الله.. نعم نحتاج إلى مثل هؤلاء العلماء ومنهم يبدأ الإصلاح وليس ممن ألبسناهم الألقاب الفضفاضة.. ولا يرون غير أنفسهم ومصالحهم ومن يلوذ بهم، وإن كان لا يجيد شيئاً.

عطاء قال للخليفة: «خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، ولا والله ما معك ممن ترى أحد».

لذلك لم يقبل المال وترك أجره على الله، مع نفسه والخليفة فعل هذا!

ألسنا بحاجة للتاريخ، وإن استبدلنا كيس الدراهم بشيك أو ما شابه؟!

دعونا من الماضي، ألم يسمع هؤلاء الأفاضل أن الطبّاخ الصيني الحديث لا يقبل كل أنواع الطناجر؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن