منذ انتصارِ تموز صيف العام 2006، لم يمر أي صيفٍ آخر إلا ويكثرُ الحديث فيهِ عن أيام ملتهبةٍ قادمة، في كنايةٍ عن التحضيرِ لجولةِ مواجهةٍ جديدة بين الكيان الصهيوني والمقاومة اللبنانية، هذا العام طبعاً لم يكن استثناء، لكن الاستثناء هو بالظروف المحيطة بالمنطقة ما يرفع حجم التكهنات لحدوث المواجهة، فمع المجزرة المفتوحة بحق الشعب الفلسطيني في جنين الصامدة، إضافة إلى إصرارِ حكومة بنيامين نتنياهو على التوسع الاستيطاني على حساب ما تبقى من أراضٍ للدولةِ الفلسطينية، وصولاً إلى تسخين الجبهة الشمالية على حدود فلسطين المحتلة مع لبنان وما تخلَّلهُ من مناوشاتٍ سيبرانية وتبادل إسقاط مسيَّراتٍ، عادَ الحديث من جديد عن احتمال المواجهة بشكلٍ كبير، هناك من يذهب أبعدَ من ذلك حيث بدأ يتحدث عن السيناريوهات المحتملة لهذهِ المواجهة فهل اقتربنا فعلياً من ذلك؟
ربما من المفيد للإجابةِ عن هذا السؤال النظرَ بعينِ التشريحِ العقلاني البعيد عن العواطف لكل ما يتعلق بالجانب الإسرائيلي ليسَ من مبدأ «اعرِف عدوَّك» فحسب لأن المعرفة وحدها قد لا تكون سبيلاً لتشكيل الصورة المطلوبة بل وربما الأدق «افهم عدوَّك»، عليه لا بد من نقاش النقاط التالية:
إسرائيل من الداخل: مقامرة أم مغامرة؟
غالباً ما يفصل الباحثون الأوروبيون في مراكزِ الدراسات الإستراتيجية التي تحترم نفسها من حيث النتاج الفكري بمعزلٍ إن اتفقنا مع هذه الدراسات أم لا، بين مفهومين للصهيونية المكوِّنة للطبقة السياسية في الكيان الصهيوني، صهيونية دينية متطرفة يمثلها المتطرفون وأخرى عَلمانية تمثلها تلكَ الأحزاب اليسارية، لكن هذا الفصل يبدو فيما يبدو مضيعة للوقت، تحديداً إن ما تسمى الصهيونية العلمانية التي من المفترضِ أنها أقلَّ حدةً في مسألةِ التعاطي مع مستقبل الكيان بما فيها حل الدولتين، ارتكبت من المجازر في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر بكثيرٍ مما ارتكبته الصهيونية الدينية، من هو «جزار قانا»؟ ربما أن هذا الفصل قد يفيد فقط في فهمِ حالة الشقاق التي يعيشها الداخل الإسرائيلي، سياسياً كان أم اجتماعياً، لكن لا علاقةَ له بحجم التطرف الذي يعيشهُ هذا الطرف أو ذاكَ تجاهَ القانون الدولي، هذا الشقاق الذي قد وصلَ حسب المتتبعين لمسارِ الحراك السياسي الداخلي في الكيان الصهيوني إلى حد الإلغاء، تحديداً أن الصهيونية الدينية ترى نفسها الوريث الوحيد والشرعي لكل ما يتعلق بتحديدِ مستقبل الكيان لكون فكرة إنشائهِ أساساً قامت بفكرةِ قيام دولة دينية على أنقاض الأرض الموعودة، فلا مكان لكل المتمردين على هذهِ النظرية في تحديدِ مستقبل الكيان، أما الطرف الآخر فيرى بأن التمسكَ بفكرة دولة دينية لليهود هي طرح بات اليوم خارجَ السياق بطريقةٍ غير مقبولة، هذا التعارض في النظرة يقابلهُ تلاقٍ في النقطة الأهم، إسرائيل من الداخل تعاني اليوم هشاشة غير مسبوقة لا يمكن النظر إليها بنظرةٍ عشوائية تحديداً أن هذا الخطر الداخلي ليس وليدَ اللحظة، فقد كتبَ منذُ سنوات الخبير بالشؤون الأمنية والاستخباراتية يوسي ميلمان، في «هآرتس» قائلاً: «إذا كان من خطرٍ على استمرار وجود إسرائيل كدولة يهودية، فهو خطر داخلي وليس خارجياً»، كذلك هناك كثر حذوا حذوه عندما نبهوا من اتساعِ رقعة التباعد ليس بين علمانيين ومتدينين فحسب لكننا نتحدث عن الشرقيين والأشكناز، خطاب الكراهية حتى تجاه أصحاب البشرة السمراء القادمين من الدول الإفريقية والذين ترفض اليهودية الأرثوذكسية في إسرائيل الاعتراف بالكثير منهم لأنهم ليسوا يهوداً بالولادة! هل يبدو الكيان اليوم بوضعية كهذه جاهزاً للحرب؟ ربما هناك من سيقول لعل الحرب تكون فرصة لإعادة توحيد المجتمع وهي فكرة منطقية لكننا نتجاهل هنا بأننا نتحدث عن مقامرة، لا مغامرة قد تكون نتائجها كارثية كما كانت في أوجِ «اتحاد» مكونات المجتمع الإسرائيلي خلال حرب العام 2006.
ومن التفاصيل المهمة التي يتجاهل كثر الحديث عنها في مسارِ الحرب على سورية أن الفكرة من الأساس ارتبطت بحتمية سقوط «النظام» والمجيء بحكومةٍ تقبل مباشرةً شروط التطبيع مع الكيان الصهيوني، هذا ما فسر لنا في الأشهر الأولى للأحداث التزام الكيان الصهيوني الصمتَ تجاه كل ما يجري، فكان الهدف عدم إحراج المعارضين بما فيهم «عُتاة اليسار»، لكن مع مرورِ الوقت بدا وكأن الكيان الصهيوني لا يريدُ شراءَ السمك بالماء بمعنى أن التصريح بمواقف علنية تدعم التنازل عن الجولان السوري المحتل هو شرط لتقديم الدعم للمعارضة السورية، وفعلياً بدأنا نسمع تلك الدعوات من معارضينَ سوريين أحدهم تحدث عن حتمية رفع العلم الإسرائيلي في قلب دمشق وغيرها الكثير من التصريحات التي كشفت بأن الجزءَ الأكبر مما يجري، هو تصفية حساب مع آخر دولة مواجهة للكيان الصهيوني، هذا المسار كان مترافقاً بمسار التطبيع مع الدول العربية التي لم تطبِّع، لكن لنعترف بأن الهدف الأول والأخير كان المملكة العربية السعودية، وعندها لن تقوم لهذهِ الأمة قائمة بعدَ أن يستفرد الكيان بما تبقى من شتات الفكر المقاوم، لكن جميع هذه السيناريوهات سقطت وسبب سقوطها الأول هو الشعب والجيش في الجمهورية العربية السورية، والحديث عن هذا السقوط يجب الاستطراد بهِ لما هو أبعد من فكرةِ توقيع اتفاقيات، بمعنى أن الحديث عن إخراج هذه الدول من فكرة العداء للكيان سقطت وهو ما لم ينتظره الكيان، بل لو ذهبنا أبعدَ من ذلك فإن اللعب على وتر الخلاف بين المملكة العربية السعودية وحزب اللـه لم يعد ذي فائدة لضمان دعم المملكة أو حيادها على أقل تقدير في أي معركةٍ قادمة، ليسَ بسبب التطورات التي تشهدها المملكة فحسب والتي أخرجت سياستها الخارجية بالكامل من إرهاصات النزعات المذهبية، بل لأن المملكة باتت ترى نفسها قادرة على لعب الكثير من الأدوار بما فيها إقحام الكيان بمقايضات لا يقوى على تلبيتها، ربما هو استشعار بفائض قوة وربما هو استشعار بفائض ضعف في الطرف الآخر، وهو ما قاله مسؤول إسرائيلي معلقاً على عودةِ العلاقات بين السعودية وإيران بالقول: «كلاهما استشعر ضعف إسرائيل والولايات المتحدة»، لكن فيما يبدو فقد فات هذا المسؤول بأن الضعف يبدو اليوم بما يخص العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة نفسها، لدرجةٍ تبدو فيها الأطراف السياسية تعيش شبه قطيعة، وبمعنى آخر، كيف لكيانٍ كإسرائيل كان يطمح بالتطبيع مع الدول العربية الأهم فبات يحلم بالتطبيع مع الحلفاء، أن يفكرَ بالحرب؟
دائماً ما تُمتحن الحروب المصيرية بقدرةِ كل طرفٍ على الصبر، شرط أن يكونَ هذا الصبر مترافقاً بالعمل الجاد، في المعركة مع الكيان الصهيوني لا يخرج الأمر عن هذا السياق، لكن البعض ينظر بعين الانتقاص لكل ما يجري، هناكَ من يسأل عن أي عمل وأي صبر نتحدث والكيان قادر على ضربنا ساعةَ يشاء؟
ببساطة لا يمكن لنا النظر لهذه التساؤلات بنوعٍ من الانتقاص، ويحق لأي غيورٍ على بلدهِ أن يطرح تساؤلات كهذه، وبدلاً من انتقاصهِ لماذا لا نحاول أن نشرحَ له بهدوء الكثير من التفاصيل التي ربما يقرؤها كل يوم لكنه لا يتعب نفسه بتحليلها، مبدئياً دعونا نتفق بأن الكيان لو ظن بنفسهِ قادراً على تحقيق أهدافه بالحرب لما وفرَ دقيقة واحدة لخوضها، ما الذي يمنعه؟ هل يكترث لقانون دولي مثلاً؟ هل يكترث لحلفاء وهم لم يمونوا عليهِ بمنع مصادرة أراضٍ لبناءِ المستوطنات؟ الشيء الوحيد الذي يمنعهُ هو الشيء الذي كان يحلم بإنهائهِ في مدحلة الربيع العربي.
من جهةٍ ثانية، ماذا تعني لكم عبارات من قبيل «سجن الخيام»، «انتفاضة الحجارة»، «الله معك يا بيت صامد بالجنوب»؟ وغيرها من العبارات التي ارتبطت بذاكرتنا مع كل حرب وعدوان إسرائيلي هنا أو هناك، وكيف أصبحت هذه العبارات اليوم؟
«لماذا لم تستطع إسرائيل معرفة أين يخبئ الأسد صواريخ الياخونت»، «طائرة مسيرة تحلق فوق فلسطين المحتلة لساعات»، «الحلقة المحيطة بالكيان تضيق.. النظام السوري وحزب اللـه يدركون ماذا يفعلون»، وغيرها الكثير من العبارات التي هي ليسَت كلامي لكنها كلام لمسؤولين إسرائيليين، يوحي لنا بأن الصبر باتَ يُعطي نتائجَ حتى في المصطلحات التي كنا نحلم يوماً بسماعها، فكيف وهي باتت واقعاً، فماذا ينتظرنا؟
بعدَ هذا التقديم من السذاجةِ بمكان الاعتقاد بأن الكيان يمتلك القدرة على اتخاذِ قرار الحرب، مازالت المعركة مؤجلة لأن من يمتلكون مفاتيحها بحق يرون بأن المفاجآت بعد لم تكتمل، والمفاجأة الأهم هي القدرة على امتلاك قرار الحرب، قالها لكم من اليوم الأول الرئيس بشار الأسد، إن أردتموها حرباً مفتوحة لتكن، لكن القصور لديكم ولدى من في قلبهم وجل بأنهم لم يستوعبوا بعد ما عناه من تعبير «الحرب المفتوحة».