قضايا وآراء

أميركا والأخلاق والقتل العشوائي بالقنابل العنقودية

| الدكتور قحطان السيوفي

إن رسم معالم العلاقة بين القيم الأخلاقية والحروب مسألة صعبة في عصر نشهد فيه اضطراباً وصراعات في مراكز القوى الدولية، لكن العالم استطاع في العقود الماضية ترجمة بعض خطوط العلاقة بين الحروب والأخلاق على شكل اتفاقيات دولية، ويحضرنا هنا قرار الرئيس الأميركي جو بايدن إرسال «قنابل عنقودية» إلى أوكرانيا، وهو قرارٌ بالغ الخطورة بالنسبة للحرب الأوكرانية، وعلى مستوى البشرية، في إطار العلاقة بين القيم الأخلاقية والحروب في عصر التحول من القطبية الأحادية إلى عالم متعدد الأقطاب.

إن جدل العلاقة بين الأخلاق والحروب هو جدل فكري وفلسفي مُستمر، وما استطاعت البشرية رسمه من خطوط لهذه العلاقة في العقود الماضية هي خطوطٌ متحركةٌ تحكمها الصراعات الدولية ومراكز القوى والظروف المتغيرة التي تتغير معها حدود الأخلاق وحدود الحرب، وخاصة مع تجاهل الإدارة الأميركية لمثل هذه الاتفاقيات التي تحرم استخدام أسلحة القتل العشوائي.

لقد عبر التحالف الدولي لحظر الذخائر العنقودية عن صدمته إزاء قرار بايدن تسليم ذخائر عنقودية لأوكرانيا، فالقرار أخذ صدى سلبياً جداً في الأوساط الإعلامية الأميركية، وضمن الكونغرس على مستوى المشرعين الأميركيين كانت هناك معارضة واضحة واعتقاد حقيقي أن الخسائر البشرية من الأبرياء التي قد تنجم عن استخدام الذخائر العنقودية هي أكثر من الفائدة التي من الممكن أن يحققها جيش الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنيسكي في مواجهة الجيش الروسي، حتى في الإطار العسكري البحت، ووفق الخبراء، لا توجد نتائج جدية تُرتجى من تسليح جيش زيلنيسكي بهذه الذخائر أكثر من القتل العشوائي للبشر وتجاوز القواعد الدولية التي تحظر استخدام هذه الذخائر.

والذخائر العنقودية كما يسميها رعاة البقر الأميركيون، هي سلاح «القتل العشوائي»، وهي أسلحة تنفتح في الهواء وينطلق منها عدد كبير من الذخائر أو القنابل الصغيرة بهدف تدمير أهداف متعددة في وقت واحد، والخطورة في الذخائر العنقودية تتمثل بانتشارها على مساحة واسعة، وهي ليست بالذخائر الذكية التي توجه إلى هدف محدد؛ ومصممة للانتشار على مساحة تصل إلى آلاف الأمتار المربعة، كما أن نسبة كبيرة من أجزاء الذخائر العنقودية التي تنفصل عن الجزء الأساسي منها، لا تنفجر في وقتها، وتبقى كقنابل موقوتة معرضة للانفجار في مرحلة ما بعد المواجهات.

وبحسب الأمم المتحدة، فإن الذخائر العنقودية تشكل خطراً على البشرية لسببين، أولهما، أن لها تأثيرات واسعة النطاق وغير قادرة على التمييز بين المدنيين والمقاتلين. وثانياً، أن استخدامها يخلف وراءه أعداداً كبيرة من الذخائر الخطرة غير المنفجرة. وتقتل وتجرح المدنيين، ولها عواقب وخيمة تستمر لسنوات وعقود بعد استخدامها.

في الشهر الثالث من عام 2008، وقّعت أكثر من 100 دولة في أوسلو على اتفاقية لحظر القنابل العنقودية، تُعرف بـ«اتفاقية الذخائر العنقودية»، وتنص الاتفاقية على حظر استخدام وإنتاج ونقل وتخزين الذخائر العنقودية، وتلتزم الدول الموقعة بعدم استخدام الذخائر العنقودية أو إنتاجها أو تخزينها أو نقلها، ولم تنضم روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة لهذه الاتفاقية.

أقر بايدن بصعوبة قراره بتسليم القنابل العنقودية لأوكرانيا وأنه تشاور مع بعض الحلفاء بشأن تسليمها، وما زالت زوبعة هذا القرار الخطير تدور بين الحزبين الرئيسين داخل أميركا، حتى بعض الديمقراطيين أبدوا تحفظاتٍ مهمةٍ تجاهه.

إن الذخائر غير المنفجرة من القنابل العنقودية تستمر في قتل وتشويه الناس في لبنان وسورية، ودول البلقان وأفغانستان وجنوب شرق آسيا، بعد سنوات أو حتى عقود، من إطلاق الذخائر.

وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر: إن نسبة كبيرة من القنابل الصغيرة التي تطلقها القنابل العنقودية، وتصل إلى 40 بالمئة، لم تنفجر، ما يترك مساحات شاسعة من الأراضي ممتلئة بالقنابل الصغيرة غير المنفجرة، وتُصبح العودة إلى الحياة الطبيعية في هذه المناطق محفوفة بالمخاطر.

«القنابل العنقودية» هذا هو اسمها المعروف لكن في الاستخدام السياسي والإعلامي الأميركي أصبح اسمها «الذخائر العنقودية»، وهو اسم لتلطيف وقع الخبر والتقليل من خطورته، ومنظمة «هيومن رايتس ووتش» تتحدث عن «معاناة المدنيين»، و«منظمة العفو الدولية» تتحدث عن «قتل إضافي للمدنيين»، ومن يعرف المنظمتين وبياناتهما يعلم جيداً كم هي عباراتٌ ملطفةٌ جداً للتعبير عن الخبر الخطير.

الأمم المتحدة وأمينها العام يبديان تحفظاً تجاه تسليم قنابل القتل العشوائي لأوكرانيا، والمنظمات الحقوقية تبدي تحفظاً مماثلاً، كما أبدت ألمانيا معارضتها لإرسال ذخائر عنقودية لأوكرانيا، بدورها كندا تعلن معارضتها القرار الأميركي، وديمقراطيون في الكونغرس الأميركي يعارضون قرار بايدن ويعتبرونه خطأ رهيباً.

معلومٌ أن إدارة بايدن، حزباً وتياراً داخل الحزب وأشخاصاً، هي امتدادٌ لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهي تسعى لحماية إرث تلك الإدارة، وهذا القرار اليوم بتزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية هو امتدادٌ لذلك التوجه.

والعلاقة بين الأخلاق والحرب يقودنا للحديث عن سياسات إدارة أوباما وتحالفها مع الجماعات الإرهابية في الدول العربية إبان ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، فهذه الجماعات الإرهابية التي شجعتها وساعدتها أميركا، قتلت الآلاف من البشر في الدول العربية وفي العالم مباشرة أو عبر تنظيمات العنف الديني والإرهابي كـ«القاعدة» و«داعش»، ويبقى السؤال عن العلاقة بين الأخلاق والحرب في المفاهيم الأميركية لرعاة البقر مطروحاً ومفتوحاً ويؤكد مفاهيم الكذبة الأخلاقية التي تحكم قرارات الإدارات الأميركية.

لقد استخدمت الولايات المتحدة الأميركية القنابل العنقودية بشكل مكثف في كمبوديا ولاوس وفيتنام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كما استخدمت إسرائيل القنابل العنقودية في مناطق مدنية في جنوب لبنان، في أثناء غزو لبنان في عام 1982.

وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006 اتهمت «هيومن رايتس ووتش» والأمم المتحدة، إسرائيل بإطلاق ما يصل إلى 4 ملايين ذخيرة عنقودية على لبنان، وخلف ذلك ذخائر غير منفجرة تهدد المدنيين اللبنانيين إلى يومنا هذا.

وكان آخر استخدام أميركي للقنابل العنقودية على نطاق واسع أثناء غزو العراق في عام 2003، كما أن الولايات المتحدة أسقطت أكثر من 1500 قنبلة عنقودية في أفغانستان في السنوات الثلاث الأولى.

وكشف تقرير مرصد القنابل العنقودية لعام 2022 أن أوكرانيا هي البلد الوحيد في العالم الذي يتم فيه استخدام الذخائر العنقودية، خلال الحرب الحالية.

إن هدايا بايدن من قنابل القتل العشوائي التي ستسلمها أميركا لأوكرانيا، ستزيد الحرب القائمة دمويةً، وسيعود سؤال الأخلاق والقتل العشوائي بالقنابل العنقودية للواجهة من جديد.

انتقدت أوساط سياسية دولية قرار الإدارة الأميركية تسليم ذخائر عنقودية إلى الجيش الأوكراني، معتبرة أن إدارة بايدن تتجاهل المعيار الإنساني وخسائر المدنيين، وأنها بهذا القرار تصب الزيت على النار، الخارجية الروسية اعتبرت تزويد أميركا لكييف بالذخائر العنقودية يهدف لإطالة الصراع حتى آخر أوكراني.

«هجوم الربيع» أخفق في تحقيق أهدافه لذا فإن قرار بايدن بإرسال ذخائر عنقودية إلى أوكرانيا له عدة دلالات، أولاها يتعلق بفشل ما أطلق عليه «هجوم الربيع»، مع الصعوبات الخطرة التي يتحدث عنها حلف «الناتو»، التي تواجه الهجوم الأوكراني وعجزه عن تحقيق النتائج التي كان يسعى لتحقيقها، ويُلاحظ أن هناك فشلاً تلو الآخر يلاحق القوات الأوكرانية.

الناتو يحاول «يائساً» رفع معنويات القوات الأوكرانية ومستوى أدائها، والوحدات الفاشية التي تحارب معها، محاولاً تغيير الوضع اليائس معنوياً الذي وصلت إليه القوات الأوكرانية بعد انفراط حبات عنقود ما سمّاه الغرب «هجوم الربيع»، للإيحاء بأن هناك أملاً لتحقيق نتيجة على الأرض أو تغيير نتائج المواجهة الخاسرة لأوكرانيا في مواجهة الجيش الروسي.

هناك أيضاً هدف لأميركا يتمثل في دفع دول الاتحاد الأوروبي لمزيد من الانخراط في تسليح أوكرانيا، وهذا يفترض به أن يدفع الأوروبيين إلى مزيد من الانخراط في عملية تسليح معركة خاسرة يخوضها الجيش الأوكراني.

إن المعيار الإنساني الذي تتحدث عنه أميركا هو ليس أكثر من دعاية كاذبة، فهي لا تأخذ أبداً بالمعايير والاعتراضات في الكونغرس، أما الأمين العام لحلف الناتو فقال: إن أنماط التسليح المعطاة لجيش زيلينسكي تعود إلى كل دولة على حدة، في محاولة منه لتسويغ هذا القرار الأميركي الخطر الذي يُظهر كذب الادعاءات الأميركية للأخلاق والقتل العشوائي بالقنابل العنقودية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن