سبعة عشر عاماً مضت على اندلاع حرب تموز 2006، أو حرب الـ33 يوماً، بين لبنان والعدو الإسرائيلي، وذلك على إثر قيام رجال المقاومة اللبنانية بعملية عسكرية متقنة في منطقة «خلة وردة» على الحدود مع فلسطين المحتلة، أسفرت عن أسر عدد من جنود العدو الإسرائيلي وتدمير آليات الدورية العسكرية الإسرائيلية.
ردة فعل العدو الإسرائيلي لم تكن متوقعة، وهذه حقيقة، حيث بدأ بشن سلسلة من الغارات الجوية على ضاحية بيروت الجنوبية، أدت إلى تدمير معظم الأبنية السكنية فوق رؤوس قاطنيها من المدنيين العزل، موقعة العدد الكبير من القتلى والجرحى والمشردين، ولم يوفر العدو الصهيوني خلالها، أي وسيلة من وسائل الإجرام إلا واستعملها، بهدف القضاء على المقاومة اللبنانية، بدءاً من الجنوب وصولاً إلى العاصمة بيروت.
بعض الإعلام اللبناني والعربي والغربي والأميركي، روّج لحرب تدور رحاها في جنوب لبنان، بين التنظيمات المسلحة و«جيش الدفاع الإسرائيلي» سعياً لاسترداد أفراد الدورية الإسرائيلية، وتحريرهم من الأسر، لكن حقيقة الأمر، فإن حرب تموز 2006، كانت محضّرة ومخططة وجاهزة، موضوعة على طاولة البنتاغون الأميركي والـ«ناتو»، أما التنفيذ فيقع على عاتق الوكيل، العدو الإسرائيلي، وبموافقة بعض الدول العربية.
الهدف من الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 لم يكن لاسترداد أفراد الدورية الإسرائيلية الأسرى لدى المقاومة، بيد أن الإيغال الإسرائيلي في التوحش والقتل المتعمد للمدنيين وفي هدم المنازل في 2006، كان بهدف استكمال مشروع الشرق الأوسط الجديد، بمعنى القضاء على آخر معاقل الممانعة للسياسات الأميركية في المنطقة، وذلك بعد السيطرة الأميركية على العراق 2003.
وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، وعقب اندلاع حرب تموز قالت: «إن الحرب الدائرة في لبنان 2006 سينتج عنها قيام شرق أوسط جديد»، والقصد من هذا المصطلح، هو فرض الطوق على سورية ولبنان وفلسطين، وذلك للقضاء على آخر الحصون المناهضة والممانعة للهيمنة الأميركية على المنطقة، في رسالة واضحة لدول المنطقة مفادها، «لقد انتهى عهد الممانعة للقرار الأميركي في الشرق الأوسط وعليكم الانصياع لأوامرنا ليس إلا».
كان هدف المشروع الأميركي الغربي الصهيوني بالاشتراك مع بعض العرب، هو الانطلاق من لبنان، ثم استكمال الطريق نحو سورية، قلعة المقاومة، وذلك لفرض واقع يمكّن الإدارة الأميركية الغربية العربية المشتركة، الإمساك بالقرار والسيطرة في دول الشرق الأوسط التي كانت خارج بيت الطاعة والتبعية الأميركية، ثم إقامة الأنظمة السياسية الخاضعة من العراق إلى فلسطين إلى سورية ولبنان.
واهم من يعتقد أن حرب تموز 2006 كانت بين المقاومة اللبنانية وبين العدو الإسرائيلي، لأن حرب تموز وعلى مدى 33 يوماً كانت تدور رحاها بين الجيش والشعب والمقاومة اللبنانية، وبين القوى الكبرى بدءاً من واشنطن مروراً بأوروبا والـ«ناتو» وصولاً إلى بعض المتخاذلين العرب، الساعين إلى تقسيم الدول الشرق أوسطية الكبرى إلى دول طائفية أو عرقية صغيرة، وجعلها عاجزة عن امتلاك مقومات الدولة، القادرة على حماية ذاتها أو الاستمرار من غير دعم خارجي معين وخاصة في المجال الأمني والاقتصادي.
من الناحية العسكرية كان الهدف الأميركي الغربي الإسرائيلي هو جعل الحكومات أو الأنظمة الجديدة في المنطقة، بعيدة عن التفكير في إنشاء جيوش قادرة على القتال، بل لجعلها قابلة للاقتتال فيما بينها، تماماً كما هو حاصل اليوم في ليبيا والسودان، إذ إن أميركا وإسرائيل هما وحدهما اللتان لهما الحق في ذلك، أي بناء جيوش تمتلك القدرة على ارتكاب الجرائم بحق شعبنا ودولنا، أما الآخرون فليس لهم أكثر من إنشاء شرطة محلية لقمع الشعب ومنع أي حركة رافضة للسياسة الأميركية في الداخل.
ومن نتائج ومفاجآت حرب تموز 2006، بعد 33 يوماً من القتال الشرس بين بواسل المقاومة اللبنانية والجيش اللبناني، وهي المدة الأطول للحرب في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أنها توجت بانتصار مدوٍ للمقاومة اللبنانية، بعدما تمكنت من قهر الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، مكبدة إياه الخسائر الفادحة غير المتوقعة، بدءاً بمفاجأة إغراق البارجة البحرية الإسرائيلية «ساعر 5» وبعدها مجزرة دبابات الميركافا، درة سلاح البر الإسرائيلي في وادي الحجير وسهل مرجعيون، وإسقاط طائرة «يسعور» أفضل طائرات الهيلكوبتر للإسناد لدى العدو، والأهم هو انهيار تام في معنويات ضباط وأفراد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
إن انتصار تموز 2006 ليس انتصاراً عسكرياً فقط، بل هو انتصار تاريخي على قوى عظمى تكالبت على المقاومة وعلى سورية، وهو انتصار استطاع تعطيل مشروع الشرق الأوسط الجديد الأميركي الغربي الصهيوني، وأسس لمرحلة جديدة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ومنح المقاومة الفلسطينية الزخم والدافع القوي، لبناء معادلة ردع ضد العدو الصهيوني، هو انتصار جعل من المقاومة اللبنانية القوة العربية الوحيدة المتمكنة من ردع العدو الإسرائيلي عن ارتكاب ما كان يرتكبه سابقاً بحق لبنان، وانتصار 2006 قلب الموازين وخلط الأوراق في المنطقة كلها، وجعل من لبنان أقوى دول المنطقة، وأكثرها منعة ضد أي اعتداء إسرائيلي، بعدما وصف يوماً بأن قوة لبنان في ضعفه.
على الرغم من الدمار والخسائر البشرية والاقتصادية، إلا أن انتصار تموز 2006، غيّر وجه المنطقة وجعل قوى الشر تهاب قوة المقاومة، ولا غلو في القول إن لبنان اليوم أضحى يفرض المعادلات ولا تفرض عليه، تماماً كما حصل في ملف ترسيم الحدود البحرية، وإجبار أميركا ومبعوثها آموس هوكشتاين وفرنسا شركتها توتال والعدو الإسرائيلي، على القبول والإقرار بالخط 23 اللبناني وكل هذا بفضل مسيرات وقوة المقاومة.
ان انتصار تموز 2006 بني على أساس انتصار تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، بفضل ضربات المقاومة، الأمر الذي أدى إلى انسحاب مفاجئ ومهين ومذلّ لجيش العدو وتحت جنح الظلام، ومن انتصار تحرير 2000 ولد تحرير غزة في 2004، الأمر الذي ولّد قوة ردع للمقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني من جديد.
إن تعاظم قوى المقاومة وتوحيد ساحات المقاومة أكثر من ضروري لمواجهة مشاريع تفتيت مجتمعاتنا، لكن توحيد ساحات المقاومة، لن يكون كافياً إن لم نسعَ إلى توحيد الساحات العربية، وفي كل بقعة عربية، فالمطلوب السعي إلى تعزيز تماسك مجتمعاتنا العربية وليس تعزيز تماسك بيئة بعينها، والتصدي لأطماع أميركا والغرب وإسرائيل المشتركة، في ثرواتنا وللمشاريع الهادفة إلى ضرب اقتصادنا وإفقار شعبنا وتفتيت مجتمعاتنا العربية، يتطلب منا ومن كل قوى المقاومة في المنطقة، إعادة جدولة الأولويات الآيلة إلى تعزيز تماسك مجتمعاتنا المقاومة.
إن بيت القصيد، هو تأمين سبل العيش الكريم لمجتمعنا، ومكافحة الفساد المستشري، ومنع المتاجرة بدماء شهدائنا الأبرار، وتوريث أجيالنا القادمة معنى التحرر النظيف، والعيش بكرامة وعزة، وذلك لتحصين منعتنا الذاتية، ولعدم تمكين القوى الغربية، من العودة لاستعمار بلادنا مجدداً، من خلال التجويع والتطويع والإفقار، أما الأهم فهو الحفاظ على نتائج انتصاراتنا، والبناء عليها وبكل السبل المتاحة، كي لا تتلاشى مفاعيلها مع مرور الزمن فتذهب أدراج الرياح وتصبح مجرد ذكرى احتفالية.