ثقافة وفن

ما العلاقة بين المكونين اللذين يمتلكهما الإنسان (العقل والدماغ)؟ … القبول باستقلالية العلوم الخاصة لا يثير أي مشكلة بالنسبة للتاريخ أو علم اللغويات أو الاقتصاد

| مصعب أيوب

صدر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب «كتاب» تحت مسمى «من العقل إلى الدماغ» للمؤلف تييري ريبول وترجمه محمد الدنيا ويندرج ضمن المشروع الوطني للترجمة وهو يقع في ٣٩٧ صفحة من القطع الكبير.

وصول دقيق

وصولنا الواعي إلى أحاسيسنا وإدراكنا للعلاقة بين النيات والأفعال يدفعنا للإقرار بالتمييز بين الأنا العقلية والأنا الجسدية وهو ما يعني التسليم بوجود كيانات مادية وروحية غير قابلة للاختزال وهو حدس يدعمه تباين جلي بين وصولنا الواعي إلى أفكارنا وبين ما يفترض أنه يولد سيل أفكارنا نفسها حينما نفكر ولكن بالمقابل لا يتوافر لدينا وصول دقيق وواع إلى منشأ هذه الأفكار.

ونسبة إلى بعض الدراسات فقد أشارت النتائج إلى أنه كلما كان المستوى الدراسي مرموقاً تضاءل عدد الأشخاص الذين يعتقدون بوجود كيانات روحية بحصر المعنى.

حقل مغناطيسي

والخلاصة تفيد أنه على الرغم من تقدم العلوم وضعف الأديان في العالم نادرون هم البشر المستعدون للتخلي عن حدسهم المتأصل الذي يفيد بأن هوية ذواتنا العميقة أنانا الأكثر حميمية لا يمكن أن تختزل إلى عمليات مادية محضة.

يضرب المؤلف مثالاً أنه إذا جرعنا شخصاً مادة ما قانونية نفسية التأثير كالتبغ أو القهوة أو غير قانونية كالحشيش نعدل بذلك حالته العقلية والانفعالية… إلا أننا نستطيع اليوم تحريض حالات عقلية نوعية جداً عبر تقنية التنبيه المغناطيسي عبر الجمجمة ويمكن الوصول إلى منطقة نوعية من الدماغ فنكون حينئذ تحت تأثير الحقل المغناطيسي.

يؤكد الكاتب أن الاستكشاف المنهجي لمختلف مناطق الدماغ يوحي بأن كل ناحية من نواحيه مرتبطة بمعارف وخبرات نوعية.

حس مشترك

يركز المؤلف على أن تبقى فلسفة الحس المشترك، أمراً يمكن فهمه غالباً ولكن بقاءها على استمراريتها لدى الباحثين في هذا الميدان فهو أمر أكثر إثارة للقلق وإشكالية إلى حد كبير وقد استمرت وبقيت حاضرة لدى الباحثين في مجال المرضيات النفسية السريرية والتحليلية النفسية على حين أن الفلاسفة المعاصرين وعلماء النفس هجروا غكرة الحس المشترك على نطاق واسع.

يركز الكاتب على أن قبولنا لمفهوم حرية الإرادة يبدو شديد الارتباط بالاعتقاد أن لدينا أنا تقرر وهي ليست مادية حصراً ولا خاضعة لمقتضيات قوانين الطبيعة وبالتالي ندركها على أنها مستقلة ذاتياً غير فيزيائية أساسياً وبالتالي هي ليست خاضعة لحتميات العالم الفيزيائي.

عمليات دماغية ضالعة

يقول المؤلف إن اختصاصيي علوم عصبية توصلوا إلى تحديد العمليات الدماغية الضالعة في وعي جسدنا الخاص وهو ما يعني أن نعرف في كل لحظة أين جسدنا وأين تتوضع أجزاء جسدنا، وهو ناجم عن تكامل عدد كبير من المعلومات الحسية وإذا تمت إعاقة هذا التكامل بصورة عرضة أو إرادية يتلاشى الوعي للجسد الخاص الذي يبدو طبيعياً جداً.

يعتبر ريبول أن الحس المشترك فقد الكثير من زخمه وما كفَّ ضعف وزن الدين والتقاليد وتنامي قوة التفسيرات العلمية عن كسب مزيد من الحيز المفهومي الذي ازدهرت فيه فكرة الحس المشترك.

ويركز الكاتب على أنه مما لا شك فيه أن كل واحد منا يشهد تطوراً بدنياً وسيكولوجياً كبيراً طول حياته ولكن ثمة يقيناً ثابتاً بأن شيئاً ما يبقى متماثلاً على حاله ويترافق بانطباع ثبات كينونتنا.

يؤكد الكتاب أن المنحازين إلى الحس المشترك يقولون إن العقل هو شيء أكثر من عمل الدماغ، لأنه إذا اختزل العقل إلى عمل الدماغ، مثلما تختزل حركة السيارة إلى عمل مكوناتها المادية، فإننا لن ندرك جيداً لماذا لا نستطيع أن نستنتج ما هو النشاط العقلي الذي يولده الدماغ لحظة معاينته وهو بحالة عمل.

يفيد الكتاب أنه من المؤكد أن لاستئصال الغدة الصنوبرية نتائج مخيفة، لكن دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالوعي وليس أي موضع في الدماغ.

كما أنه من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن القبول باستقلالية العلوم الخاصة لا يثير أي مشكلة بالنسبة للتاريخ أو علم اللغويات أو الاقتصاد في حين أنه أكثر إشكالية وقبولاً للنقاش فيما يتعلق بعلم النفس.

تفضي النظرية إلى تفسيرات مبهمة وتناقضات داخلية ولا تتيح تفسير أي شيء يمكن لمقاربة فيزيائية أن تفسره يستند دفاعها الوحيد إلى أن الظواهر الذاتية غير ممكنة الاختزال إلى تفسيرات مادية خصوصاً تلك لتي تشمل النشاط الدماغي، والخلاصة أن الحيز الذي تتبوأه «الثنوية» الحس المشترك هو حيز لا يمكن أن تشغله الفيزيائية على نحو تام «حيز حالات الوعي الظاهراتي»، ولا يمر التذرع بعدم كمالية المقاربات الفيزيائية، الهادف إلى تبرير وجود كيانات روحية خالصة، دون أن يذكرنا ذلك بالتسليم بوجود إله خالق للكون والسبب أننا عاجزون عن فهم منشأها، وذلك ليس سوى فعل إيماني ببساطة وجدير بالاحترام كلياً غير أنه لا يقدم أي فائدة استكشافية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن