من دفتر الوطن

رهافة الشعر وعمق الفكر

| حسن م. يوسف

أثناء كتابة مسلسل «إخوة التراب» وصل ولعي بتاريخ منطقتنا خلال الربع الأول من القرن العشرين، إلى حد الهوس أحياناً. وقد استمر ذلك الولع حتى نهاية الألفية الماضية، لذلك استيقظ فضولي دفعة واحدة عندما أبلغني الصديق العزيز نبيل الصالح أن الأب الدكتور المؤرخ جوزيف حجار قد أصدر كتاباً بعنوان «سورية، بلاد الشام، تجزئة وطن، حول اتفاقيات سايكس- بيكو» فيه وثائق ومعلومات جديدة. أعترف بأنني لست بارعاً في المجاملات والتهاني في المناسبات، لكنني وافقت بحماس على أن أرافق الصديق نبيل كي نهنئ الأب حجار بعيد الميلاد على أمل أن أحصل على نسخة من كتابه الذي لم يكن قد وزع في المكتبات بعد، وقد ازددت حماساً عندما أبلغني نبيل أن شيخاً أديباً يدعى حسين أحمد شحادة سيرافقنا، إذ لم يسبق لي أن رأيت شيخاً مسلماً يزور كاهناً مسيحياً في بيته كي يهنئه بعيد الميلاد.

بحكم طبيعة عملي ككاتب، أحاول خلال اللحظات الأولى من لقائي أي شخص أن أخمِّن أين تقع شخصيته على خريطة الطباع البشرية، وقد انتابني إحساس لطيف عندما التقت عيناي عيني الشيخ شحادة لأول مرة، إذ شعرت بأنني أمام شخص رحماني ليست «السلام عليكم» بالنسبة له مجرد تحية، بل رسالة ونمط عيش.

في بيته في حي القصور الدمشقي استقبلنا الأب حجار بابتسامة مشرقة ودافئة، وبعد التعارف تناول من يد امتدت عبر باب موارب صينية فوقها زبدية مملوءة بـ«الملبس» وأربعة أقداح فيها شراب كحولي يدعى عنبرية. أخذت حبة ملبس وقدح عنبرية كالعادة في هذه المناسبة، ورحت أراقب رد فعل الشيخ حسين، توقعت أن يترك كأس العنبرية الكحولية في الصينية، وأن يكتفي بأخذ حبة الملبس. لكنه تناول كأس العنبرية ووضعها إلى جانبه وأخذ حبة ملبس وأكلها مع ابتسامة شاكرة.

طبعاً لم يشرب الشيخ العنبرية، لكن سلوكه الهادئ والمحترم أدخل محبته إلى قلبي، فقد قال للأب حجار بهذه الحركة البسيطة أشياء بالغة الأهمية والسمو، قال له: أنا أحترمك وأحترم ثقافتك وعادات مجتمعك، لكنني أحترم ثقافتي وعادات مجتمعي أيضاً، وهذه برأيي هي المعادلة التي يمكن أن تخرج مجتمعنا من الظلمات إلى النور.

منذ ذلك اليوم بدأت أقرأ ما ينشره الشيخ حسين أحمد شحادة في الصحف فأراه يطير بجناحي الإيمان والخيال ويحلّق بعيداً وعالياً. لذا شعرت بالحماس عندما أبلغني الصديق الدكتور إسماعيل مروة بأن الشيخ شحادة قد أودع لي عنده ثلاثة كتب. وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة عندما تبين لي أنني سبق أن قرأت جل ما نشر في تلك الكتب بالتقسيط المريح على مدى عشرين عاماً.

بوَّب الشيخ شحادة مقالاته تحت ثلاثة عناوين: الأول «تراتيل للحب والحياة». ويقع في ثلاثمئة وثمانين صفحة. والثاني بعنوان «نفحات دمشقية» ويقع في مئتين وثمانٍ وعشرين صفحة، والثالث بعنوان: «لتوءمة الروح في الجسد» ويقع في مئتين وثمانٍ وستين صفحة، وجميعها من القطع الكبير.

صحيح أن نصوص الشيخ شحادة متباعدة زمنياً، لكنها متحدة روحياً، فجلها تجمع رهافة الشعر إلى عمق الفكر. يقول في «تراتيل للحب والحياة»:

«والحبر في أضلعي /يود لو يطير/ وغيماتي الحزينات/ بألف نهر/ تود لو تصعد إلى السماء».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن