العلاقات الأميركية الإسرائيلية تمر بأزمة لم يسبق لها مثيل منذ إعلان قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار 1948، وكانت أميركا أول الداعمين للدولة الصهيونية والمعترفين بها ورفعت علمها أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.
يدور جدل واسع في إسرائيل حول ما يوصف بـ«أزمة العلاقة مع الإدارة الأميركية»، ويتم استثمار الأزمة في السجال الداخلي بين القوى المتصارعة على السلطة والنفوذ، مع أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن سعت إلى استيعاب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، إلا أن العلاقات الأميركية-الإسرائيلية تمر في أزمة بسبب السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والحرب الأوكرانية والبرنامج النووي الإيراني، والأهم خطة نتنياهو لتقويض استقلال القضاء في إسرائيل التي تضرب قواعد في التحالف الأميركي-الإسرائيلي، حيث تَمُرُّ العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في أزمة منذ عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزراء في إسرائيل في كانون الأول 2022.
وساد قلق في البيت الأبيض حتى قبل تولي نتنياهو مهام منصبه، بسبب المناصب الوزارية التي منحها لشركائه في التحالف اليميني المتطرف.
أراد البيت الأبيض تجنُّب حدوث مواجهة مبكرة بسبب ثقل الأجندة الأميركية-الإسرائيلية التي تتضمن قضايا مُلِحَّة في الانتظار، والتي تراوح بين مواجهة إيران، والتعامل مع روسيا في ضوء الحرب الأوكرانية، والحاجة إلى توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
ونظراً لأن الحضور الأميركي في الحياة الإسرائيلية، قوي التأثير في الرأي العام، فإن كل طرف من أطراف الصراع، يحرص على اتهام الطرف الآخر بإساءة السلوك إزاء الحليف الأول والأخير لإسرائيل.
المعارضة تتهم الحكومة باستفزاز الإدارة الأميركية، من خلال تفريطها فيما يسمى القيم المشتركة التي بُنيت عليها العلاقة الإستراتيجية مع واشنطن.
أما رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو اليميني الصهيوني فيتباهى بالمبالغة في ادعاء الاستقلالية عن السياسات والمواقف الأميركية، حتى إن كثيراً من وزرائه أظهروا استخفافاً بها، ودعوا إلى تحديها ليس فقط في إسرائيل وإنما داخل الولايات المتحدة ذاتها.
وقد بلغ الأمر حد الحديث الصريح عن بدائل، بتطوير علاقات مع دول أخرى، لا ترضى عنها الولايات المتحدة.
نتنياهو يدرك مغزى دعوة رئيس الدولة لزيارة واشنطن بوصفها عامل ضغط من العيار الثقيل عليه وعلى ائتلافه، ونتنياهو يدرك أنه مشروع ترويض أميركي وليس مقاطعة حاسمة، وقد فقد توازنه حين وضعته إدارة بايدن تحت شروط لا يستطيع الوفاء بها، كي تفتح أبواب البيت الأبيض أمامه، وأصعب هذه الشروط هو التخلي عن الوزراء المتشددين الذين هم أساس بقائه في موقعه والتخلي كذلك عن الإصلاحات القضائية، وهذا ما يعدّه نتنياهو نهاية لعهده في رئاسة الوزراء الآن، وفي المستقبل.
موقع القضية الفلسطينية من الأزمة الأميركية -الإسرائيلية، يبدو ثانوياً، ويمكن أن يوصف بـ«الهامشي» من حيث التأثير في المجرى العام للسياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين، فإدارة بايدن التي لا تكف عن انتقاد السياسة الاستيطانية والإفراط في التنكيل بالفلسطينيين لا تقترح حلولاً جدية لأصل المشكلة، بقدر ما تدير أزمة تفهم إسرائيل من خلالها، أنها طليقة اليد في مواصلة «سياستها الفلسطينية»، بمعنى أن الموقف الأميركي من هذه المسألة تحديداً سهل احتواؤه وتفريغه من أي مؤثرات فعلية.
الإدارة الأميركية وفريق عملها لا يقتربان من حقيقة أن الوضع الفلسطيني- الإسرائيلي لن يعالج بصيغ بيروقراطية، فأساسه سياسي ولا مناص من معالجته سياسياً، وهنا تنهض أطروحة أميركية مفادها: «مع هذه الحكومة المتطرفة في إسرائيل، لا فرص لمجرد الحديث عن الأفق السياسي»، ما يظهر أن الإدارة الأميركية تؤثر التكيف مع الواقع، وهذا ما يرغب فيه الإسرائيليون ويعتمدون عليه.
مع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل، وتراكُم المشكلات على الأجندة الثنائية، أصبحت الشراكة الإستراتيجية القائمة على ما يُسمى القيم الديمقراطية مُستحيلة بين الجانبين، وسيظهر إطار أكبر للعلاقات القائمة على المُقايضات.
قادت إستراتيجية الاستيعاب التي تبنَّاها بايدن إلى زيارات بارزة بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال أول شهرين من تشكيل حكومة نتنياهو؛ فقد جاءت زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنيكن إلى إسرائيل مطلع عام 2023 في أعقاب زيارات متبادلة أجراها مسؤولون أميركيون وإسرائيليون، وهيمنت قضايا كلٌّ من إيران وروسيا والعنف في الأراضي الفلسطينية وآفاق التطبيع مع السعودية على زيارة بلنيكن إلى إسرائيل.
وقال آرون ديفيد ميلر ودانييل كيرتزنر: «لم تنخرط أي إدارة أميركية سابقة على الإطلاق مع حكومة إسرائيلية جديدة بمثل هذا الوقت المبكر، ومثل هذا التكرار، ومثل هذا المستوى الرفيع».
وتتضمن الأجندة الأميركية- الإسرائيلية الموضوع الإيراني، وقد شعر الأميركيون بالقلق من احتمال اندلاع العنف في الأراضي الفلسطينية بسرعة والقضاء على أي أمل بحدوث تطبيع بين السعودية وإسرائيل.
لذلك كان من المهم بالنسبة لواشنطن عدم السماح بهيمنة أعمال العنف في الضفة الغربية على الأجندة في الشرق الأوسط.
كما تُعَدُّ الحرب الأوكرانية إحدى القضايا التي تواجه فيها العلاقات الأميركية-الإسرائيلية إشكاليةً بسبب حسابات إسرائيل الإستراتيجية.
وشعرت إدارة بايدن بخيبة أمل تجاه إسرائيل بعد أن نأت تل أبيب بنفسها عن الصراع الروسي- الأوكراني منذ البداية.
ويتمثل السبب الرئيس لتردد إسرائيل في تبني موقف لأسباب تتعلق بوجود روسيا في سورية، والمخاوف الأمنية داخل إسرائيل بخصوص «حزب الله» وإيران، وأدت كل هذه العوامل دوراً كبيراً في انخراط إدارة بايدن مع حكومة نتنياهو بشكل مبكر، كما يمكن إضافة قضايا الأجندة الأميركية الداخلية إلى مسائل السياسة الخارجية هذه، فقد أشارت تقارير إلى أن بايدن شعر بالقلق أيضاً إزاء الدخول في معركة علنية مع نتنياهو، في الوقت الذي يخطط فيه للإعلان عن ترشحه لفترة رئاسية ثانية.
ويدرك بايدن أن الجمهوريين على استعداد لاستغلال أي مشاكل بين البيت الأبيض وإسرائيل في وقت يسعى الحزب الجمهوري لإظهار نفسه على أنه صديق إسرائيل المخلص.
التوتر الحالي بين إدارة بايدن وتحالف نتنياهو يختلف عن أي توتر آخر في تاريخ العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، إذ تشهد طبيعة هذه العلاقات تغيراً مع صعود الديناميات الاستبدادية واليمين المتطرف في إسرائيل، بعبارة أخرى، لم يعد الدعم لإسرائيل مسألة إجماع في السياسة الأميركية.
كما يزداد الحزب الجمهوري إصراراً في مسألة الاستقطاب في السياسة الداخلية الأميركية، سواء بقيادة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أو المنافس المحتمل رون ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا، إلى تحويل إسرائيل إلى مسألة استقطاب في السياسة الداخلية الأميركية.
لقد أظهرت تصريحات بايدن العلنية الأخيرة عمقَ الأزمة بين الحليفين، وخلقت صدمة سياسية في إسرائيل.
وهاجم كثيرون في المُعارضة الإسرائيلية نتنياهو لتعريضه العلاقات الأميركية- الإسرائيلية للخطر، ومع ذلك، ردّ نتنياهو على ذلك على الفور تقريباً ببيان صارم مفادُه بأن إسرائيل دولة ذات سيادة تتّخذ قراراتها بإرادة شعبها وليس بناءً على ضغوط من الخارج.
وقد تبنّى أعضاء آخرون في حكومته مواقفَ أكثر حدّة من موقفه، وزعموا أن إسرائيل ليست نجمة أخرى على العلم الأميركي.
في الثاني من أيار الماضي، استغل الزعيم الجمهوري في مجلس النواب، ورئيس مجلس النواب الحالي، كيفين مكارثي، زيارته إلى إسرائيل لإصدار تهديد واضح قائلاً إنه إذا لم يدعُ الرئيس الأميركي جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن فسيقوم هو بذلك.
اليوم، من الصعب تجنّب الشعور بأن العلاقة الأميركية- الإسرائيلية آخذة بالتطوّر من شراكة إستراتيجية قائمة على القيم، إلى شراكة مبنية على المقايضات، تقوم على المصالح الأمنية المشتركة، والجبهة الفلسطينية هي ساحة أخرى تتباعد فيها المصالح بين الجانبين، حيث يظهر أن إسرائيل لم تَعُدْ مُهتمّة بحل الدولتين، وهناك استياء مُتزايد في دوائر الحزب الديمقراطي الأميركي من انزلاق إسرائيل إلى دولة فصل عنصري، وليس من قبيل المصادفة أن الأكاديميين والمُفكّرين الأميركيين البارزين يطالبون واشنطن الآن بمساءلة إسرائيل.
إن حكومة نتنياهو الجديدة، المؤلّفة من ائتلاف متطرف ديني وقومي، تُجسّد الواقع السياسي والديمغرافي والإستراتيجي الجديد لإسرائيل.
وإذا استمرت هذه الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في إسرائيل على هذا النحو، فسيكون من الصعب تجنّب نقطة انعطاف في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية، وفي حال تراكُم المشكلات على الأجندة الثنائية، وأصبحت الشراكة الإستراتيجية القائمة على القيم الديمقراطية مُستحيلة بين الجانبين، سيظهر إطار أكبر للعلاقات القائمة على المُقايضات.
وفي إطار المُقايضات هذه، سيتعيّن على إسرائيل أن تُدرك أنها بحاجة إلى الولايات المتحدة في جميع القضايا الأمنية تقريباً، بدءاً من إيران إلى توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
ولغاية الآن، أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية أنها لم تتأثّر بتشكيلة حكومة نتنياهو وطاقم وزرائه المُتطرّف، ومع ذلك يظل الرأي العام العربي حسّاساً تجاه القضية الفلسطينية وتجاه احتلال إسرائيل للجولان السوري.
أخيراً يبقى السؤال هل تمر العلاقات الأميركية الإسرائيلية بأزمة أم هو مشروع ترويض أميركي وليس مقاطعة حاسمة؟