ما النفس الشاعرة، والذات المتوثبة نحو الارتقاء، الذات التي لا تعرف الهدوء، لا تعرف فنون الاستكانة، هذه الذات التي تختصر كل مؤشرات سمو المشاعر الراقية، تختصر مجدليات الكتابة على ورق النخيل، وربما نخيل الثقافة أولاً، وأين توجد تلك الروح البهية، المتفائلة بقدرية وصول الكلمة، وبلوغها مرتبة الشرف، وهذه المرتبة التي لا تنال شرفها، إلا إذا وضعت في ناصية الإبداع الحقيقي، ناصية الكلام الموزون بشكله المادي والمعنوي.
من تكون النفس الشاعرة؟! النفس التي قرأت معلقات أدبٍ كانت الأجمل، النفس التي ترى ما ورائيات الأفق الحدسي بالتحديد، هذه الروح، وإن تعالى وجدها ذات يومٍ، تعالى نبضها الحميمي والشاعري في الآن ذاته كقصيدة، تعالى وفق صور الفصيح وفق أفقية الحياة، وفق دوائر مدها وجزرها، وبقينا نسألُ عن النفس الشاعرة، كل ذلك هو فيض الألق المزدوج بفيض الإلهام الشعري غير المستكين. إن حصل ذلك، فإن ديمومة الاستكانة لا تليق به، لا تليق المتقدة توهجاً في ألق ما نتحدث عنه.
إن النفس الشاعرة تسمو من خلال محسوسات الهم الشعري، بما يحتويه من شاعرية الزمانية والمكانية، زمانية الحال الشعري الواقف على حدود كل أيامنا، ومكانية اليراع اللفظي، الذي يقال هنا؛ حيث نجد الزمن الوجودي من خلال كلماتٍ وقوافٍ، من خلال أوزان حالمة القول والمعنى.
ويبقى السؤال عن فضاءات النفس الشاعرة، ومستحقات الكتابة عبر زمانية الهاجس الشعري ومكانيّته، عبر تشكيلات أي قصيدة، ما زالت تئنُّ، تحت وطأة التبعثر اللحظي لقول أي شاعر، والمعنى الزماني الممتد لهذا التواثب اللحظي؛ فالنفس الشاعرة هي الأقدر على استيعاب جميع الرؤى الجمالية، على تلقي الصور الممزوجة بشاعرية خاصة، شاعرية النفس الهائمة ذات الاتجاهات الأدبية المتعددة الجوانب، المتعددة القراءات الثقافية، المتعددة الاتجاهات الشعرية المستحقة.
كيف تتبلور الذات الشعرية؟! متى تكون الروح الشعرية في أبهى تجلياتها، وفي أبهى ما نصبو إليه؟! متى تستوعب هذه الروح منهجية الحداثة، كمدرسة تفرض وجودها الشعري المميز والمؤتلق على حدٍّ سواء، مدرسة تتعدد فيها مراحل الاستقراء الأدبي، الاستقراء المبرمج حسب تفعيلة الرقي الشعري، ودوام انبثاق هذا القبس الفاعل المنفعل بالاستحقاق الأدبي، الذي يراد بالشعرية، تلك القصيدة التي تحتاج إلى روح سامية الشأن، روح من معلقات الإلهام، وشيء من الاسترخاء الذهني والعقلي، ذلك الاسترخاء، الذي يبحث عنه كلٌّ منا، ولا نكاد نجده على أطراف عصر السرعة، على شرفات الوقوف بين ماضٍ ونواقص أخواته، ومضارع ونواصب أيامه، ونواتج أشعاره المستدامة البوح.
بأيّ لغة نكتبكِ أيها النفس الشاعرة، أيتها الذات الراقية المثقلة بمعاني اللفظ والمبنى، بأي لغة نكتبُ عن مدلولات الحزم اللغوية، عن ذلك التكتيك الأدبي الذي يهدف إلى قولبة النسق الشعري العام، واعتمال مادته اللغوية ضمن مقررات الرفد الشعري النصي، وهنا يتأتى البرهان الأكيد على سمو الاستحقاق الأدبي؛ وخاصة صورته الشعرية؛ ذلك الاستحقاق المتجلي لنا بعين الصوابية الأدبية، صوابية العين الشعرية، عين على تراكيب عالم الرؤى، وأخرى على مشهدية الذائقة المرهفة، شعرية ذائقة الإبداع المتحصّن بتكتيك الحداثة الفعلية، وتفعيلة كل شعرٍ، به الموضوع الحدسي، يسمو حتى ليرفد مكنونات اللغة الشعرية بشكلها الوجودي والأدبي.