يروي الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، في مذكراته التي نشرها العام 1978 أنه تلقى في الـ 31 من أيار 1971 رسالة من الرئيس الروماني نيكولاي تشاوتشيسكو مفادها أن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ مستعد لإجراء محادثات مباشرة معه، أي مع نيكسون، وأنه يفضل أن يزور وزير خارجيته هنري كيسنجر بكين قبلها «لما يمتلك من كفاءة سياسية وقدرة على استكشاف الخبايا»، وعندما قرأ كيسنجر رسالة تشاوشيسكو قال وفقا لرواية نيكسون: «هذا هو أهم اتصال وصل إلى رئيس أميركي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».
سافر كيسنجر، وفق مذكرات نيكسون آنفة الذكر، إلى بكين في شهر تموز 1971 وقبيل أن يفعل، التقى بالفيلسوف الفرنسي أندريه مالرو الذي قال له: «أنت على وشك تجربة أحد أهم الأشياء في قرننا»، وهو يقصد بذلك الولوج إلى عالم الصين المملوء بالكثير من الخصوصية والعازم أيضاً على نهوضه وفق مسار اختط على درج فيه مسلكا باتجاه واحد هو الصعود، ومن المؤكد الآن أن زيارة كيسنجر للصين، التي مهدت لزيارة نيكسون لها شهر شباط من العام 1972، كانت كما حجر الأساس الذي قاد لحسم الولايات المتحدة معركة الحرب الباردة التي انتهت لمصلحتها أواخر العام 1991، ولكي لا يظهر الأمر على أن كيسنجر كان «ساحراً»، أو أنه كان يمتلك من الكفاءة والكاريزما ما يجعله كذلك، لا بد من القول إن المعطيات التي كانت بين يديه كانت ترجح نجاحه فيما ذهب إليه وجل ما فعله أنه استطاع إدارة تلك المعطيات بنجاح مشهود، فالخلاف السوفييتي- الصيني البادئ عام 1960 كان قد تبلور حينها جيداً، وتبدى أن كلا القطبين الشيوعيين عاجز عن تجاوزه الأمر الذي راحت أدبيات التجربة والسياسة في البلدين تظهره بوضوح، وفي أتونها راحت موسكو السوفيتية تعمل على شد الخناق حول عنق بكين التي لم تكن حتى ذلك الوقت تحظى باعتراف دولي يليق بمكانتها، حتى إن مقعد الصين في الأمم المتحدة كانت تحتله حكومة تايوان، ثم إن موسكو السوفيتية كانت قد ذهبت، بعد خلاف العام 1960، باتجاه تضييق الخناق أيضاً على كل الأحزاب، التي كان بعضها في سدة السلطة بعدة دول، التي تميل للرؤيا «الماوية» في تطبيق الماركسية.
كان نجاح كيسنجر في تموز 1971 في بكين باهراً للاعتبارات السابقة، ولاعتبارات أخرى أيضاً أقل أهمية، وعندما عاد منها سيكتب في مذكراته التالي: «قد يكون ما جرى خلال الأيام الماضية محدداً لما تبقى من هذا القرن، إن لم يكن محدداً للقرن المقبل أو لنصفه على الأقل» والمؤكد أن كيسنجر كان مصيباً في كل حرف من قوله السابق.
يوم الخميس في الـ 20 من تموز 2023 ظهر هنري كيسنجر برفقة الرئيس الصيني شي جين بينغ في بيت الضيافة بولاية دياويوتاي، وفي المقطع المتلفز الذي بثته قناة «سي سي تي في» سيقول كيسنجر لمضيفه: إنه يزور الصين بصفته «صديقاً قديماً»، والمؤكد أيضاً هو أن التوصيف له ما يبرره فعلى مدى ما يزيد على النصف قرن، بدأت صيف العام 1971، زار كيسنجر الصين لأكثر من 100 زيارة كانت أغلبيتها قد جرت بعد أن غادر المناصب، ما يشير إلى نسج علاقة خاصة ما بين الطرفين، كيسنجر والصين، ويشير أيضاً إلى «الثقة» التي منحتها الأخيرة للأول على الرغم من الحذر الطاغي الذي يشوب الذات المجتمعية الصينية حتى ليظهر في كل تفصيل من تفاصيل بنيانها، فكيف بالسياسة والساسة الذين يقودون تجربته التي تهتدي بـ«الماركسية» التي تمثل المدرسة الأكثر حذراً من بين مدارس الفلسفة التي عرفها العالم شأنها في ذلك شأن كل الفلسفات التحولية.
في الذكرى المئة لولادة كيسنجر التي صادفت مطالع هذا العام أجرت صحيفة الـ«إيكونوميست» البريطانية مقابلة معه احتلت الصين فيها موقعاً كبيراً، وفيها قال بوجوب «تجنب حرب مدمرة في وقت بات فيه مصير البشرية يتوقف على مدى استعداد الصين والولايات المتحدة للتعايش»، وفي تلك المقابلة سيدعو واشنطن أيضاً إلى «الحد من التوترات في ما يتعلق بقضية تايوان» معللاً ذلك بالقول: إن «بكين لم تقدم تاريخياً على أي تنازل، مهما كان صغيراً، في تلك المسألة» والراجح الآن هو أن كيسنجر قد استند إلى رؤياه تلك كمدخل لحل إشكالات كبرى بين البلدين، تبدأ عند الطموحات الاقتصادية للصين ولا تنتهي عند العسكرية منها التي تمثل انعكاساً طبيعياً لتنامي القدرات التي استوجبت بروز تلك الطموحات، وإذا ما كان من الثابت أن «المهمة» التي يقوم بها الرجل «استكشافية» لكن من الواضح أن بكين توليها الكثير من الاهتمام الأمر الذي يبين من خلال التصريح الذي أدلى به المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض الذي علق على الزيارة فقال: «من المؤسف أن يتمكن مواطن عادي من لقاء وزير الدفاع (يقصد الصيني) وإجراء اتصال معه، ولا تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك»، لكن التصريح آنف الذكر يبدو غير مدرك لحقيقة تقول: إن «الحقائب» لا تفتح إلا بـ«مفاتيحها»، ومن دون ذلك الفعل الكسر الذي لا يعبر هنا سوى عن فعل هو أقرب لما يقوم به «السارقون».
في الملمات، وعند الشدائد التي تفوق قدرات المطلعين بالقرار، تلجأ الذات المجتمعية إلى «حكمائها»، والأخيرة الأميركية لجأت إلى كيسنجر في أعقاب زلزال الـ 11 من أيلول 2001 ليدلي برأيه فيشرح ويوصي ثم يرسم الخيارات على الرغم من أنه كان «مواطناً عادياً»، والراجح الآن أن تلك الذات عينها قد لجأت إلى الرجل نفسه في لحظة قد تكون مصيرية لها وهي أخطر، بما لا يقاس، من لحظة الزلزال سابقة الذكر، وفعل اللجوء، يمتلك «مشروعية» كبيرة لاعتبارات عدة، لكن السؤال هنا: هل كان نجاح كيسنجر تموز 2023 يوازي، أو يقارب، نجاحه السابق تموز 1971؟ ولا يقلل هنا من أهمية السؤال أن الرجل كان في هذه الأخيرة يشغل منصبين رفيعين، هما وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، في حين أنه راهناً لا يشغل أي منصب بل هو «رجل عادي» وفقاً للتوصيف الذي استخدمته إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي حاولت كما يبدو إخفاء «المرار» الذي يشير إلى عطب كبير يكمن في الغرف المنوط بها رسم الرؤى الكبرى وتحديد الخيارات المصيرية.
ثمة ملمح مهم تشير إليه زيارة كيسنجر للصين وهو يختصر بأن العطب الأكبر في السياسات الأميركية يكمن بمن يدير المفاتيح لا في أقفال «الخزنة».